" الجَفــــاء "
" الجَفــــاء "
#### ذَمُّ الجَفَاء والنَّهي عنه في السنة النبوية:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (الحياء مِن الإيمان، والإيمان في الجنَّة، والبَذَاء مِن الجَفَاء، والجَفَاء في النَّار) [صححه الألبانى فى صحيح سنن الترمذى].
ففي هذا الحديث بيَّن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنَّ الإيمان والحياء مترابطان متلازمان، وهما معًا يقودان صاحبهما إلى الجنَّة، وفي المقابل فإنَّ البَذَاء - وهو فُحْش القول، والسَّيِّئ منه – متلازم مع الجَفَاء، فهو صِنْوَه الذي لا يفارقه، وهما يسوقان صاحبهما إلى النَّار.
قال ملا علي القاري: (... (والبَذَاء) - بفتح الباء- خلاف الحياء، والنَّاشئ منه الفُحْش في القول، والسُّوء في الخُلُق. مِن الجَفَاء: وهو خلاف البِرِّ الصَّادر منه الوفاء (والجَفَاء) أي: أهله التَّاركون للوفاء، الثَّابتون على غلاظة الطَّبع وقساوة القلب، في النَّار، إمَّا مدَّة أو أبدًا؛ لأنَّه في مقابل الإيمان الكامل أو مطلقه، فصاحبه إمَّا مِن أهل الكفران أو الكفر) [مرقاة المفاتيح].
- وعن أبي مسعود: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان هاهنا - وأشار بيده إلى اليمن - والجَفاء وغِلَظ القلوب في الفدَّادين عند أصول أذناب الإبل، حيث يطلع قَرْن الشَّيطان في ربيعة ومضر) [رواه البخارى ومسلم].
وفي هذا الحديث يحدِّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجَفَاء وأين يكون، وهو في معنى الحديث الذي سبقه في أنَّ الجَفاء يَكْثُر في أهل البوادي، الذين يتَّبعون الإبل في مراعيها، فيبعدون عن مراكز المدن والحضر؛ فتقسو قلوبهم، وتجفو طباعهم.
قال ملا علي القاري: (... (والجَفاء) -بالمدِّ- ضدُّ الوفاء... والأظهر أنَّ المراد به هاهنا غِلَظ الألسنة، بقرينة قوله: (وغِلَظ القلوب في الفدَّادين أهل الوبر) بيان للفدَّادين، ويُرَاد بأهل الوبر: الأعراب أو سكَّان الصَّحاري، وإنَّما ذمَّهم؛ لبعدهم عن المدن والقرى، الموجب لقلَّة العلم الحاصل به حسن الأخلاق لهم، وسائر علوم الشَّريعة...) [مرقاة المفاتيح،لملا على القارى].
وقال المناوي: (ويحتمل أنَّ المراد بالجَفاء أنَّ القلب لا يميل لموعظة، ولا يخشع لتذكرة، والمراد بالغِلَظ: أنَّها لا تفهم المراد، ولا تعقل المعنى) [فيض القدير،للمناوى].
#### أقوال السَّلف والعلماء في الجَفَاء:
- قال مالك بن أنس: (ما قلَّت الآثار في قوم إلَّا كَثُرَت فيهم الأهواء، وإذا قلَّت العلماء ظهر في النَّاس الجَفَاء) [رواه الخطيب البغدادى فى الفقيه والمتفقه].
- وقال سفيان الثوري: (إيَّاك ومجالسة أهل الجَفَاء، ولا تصحب إلَّا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلَّا تقيٌّ، ولا تصاحب الفاجر ولا تجالسه) [رواه أبو نعيم فى حلية الأولياء].
- عن طاوس قال: (مِن السُّنَّة أن يُوقَّر أربعة: العالم، وذو الشَّيبة، والسُّلطان، والوالد، ومِن الجَفَاء أن يدعو الرَّجل والده باسمه) [رواه البيهقى فى المدخل إلى السنن الكبرى].
- وعن سعيد بن جبير قال: (أربعة تُـعَدُّ مِن الجَفاء: دخول الرَّجل المسجد يصلِّي في مؤخَّره، ويدع أن يتقدَّم في مقدَّمه؛ ويمرُّ الرَّجل بين يدي الرَّجل وهو يصلِّي؛ ومسح الرَّجل جبهته قبل أن يقضي صلاته؛ ومؤاكلة الرَّجل مع غير أهل دينه) [رواه البيهقى فى شعب الإيمان].
#### من آثار الجَفاء:
1- التَّنافر بين النَّاس.
2- تقطُّع أواصر المودَّة والمحبَّة، خاصَّة مع الأهل والأقرباء.
3- كثرة حدوث المشكلات.
4- الحرمان من معونة الناس عند نزول الشدائد.
5- الجافي متوعَّد بالعقوبة الأخرويَّة بالعذاب في النَّار.
#### من صور الجَفَاء:
1- جفاء الإنسان ربَّه: وهو مولاه والمطَّلع عليه، ويحدِّثنا ابن القيِّم عن هذا النَّوع مِن أنواع الجَفاء، فيقول: أمَّا قوله: (والصَّبر عن الله جَفَاء) فلا جَفَاء أعظم ممَّن صبر عن معبوده وإلهه ومولاه، الذي لا مولى له سواه، ولا حياة له ولا صلاح ولا نعيم إلَّا بمحبَّته والقرب منه، وإيثار مرضاته على كلِّ شيء، فأيُّ جفاء أعظم مِن الصَّبر عنه) [عدة الصابرين].
وقال بعض الحكماء: لا تجف ربَّك... أما الجَفَاء بربِّك: فأن تشتغل بخدمة غيره مِن المخلوقين [تنبيه الغافلين،للسمرقندى].
2- جفاء الوالدين، بالتَّأفُّف وغِلَظ القول لهما، أو قطعهما ونحوه: وهذا مِن أعظم الجَفَاء وأشدِّه، بل هو العقوق بعينه، إذ كيف يجفو المرء مَن كانا سببًا في وجوده، ومَن تعبا على تربيته، وبَذَلا جهدهما مِن أجل راحته.
بل عدَّ السَّلف مناداة الرَّجل لوالده باسمه مجردًا مِن الجَفَاء، قال طاوس: (مِن الجَفَاء أن يدعو الرَّجل والده باسمه) [رواه البيهقى فى المدخل إلى السنن الكبرى] فكيف بمن يعاملهما بما هو أشدُّ مِن ذلك سوءًا.
3- ومِن صور الجَفَاء المتفشِّية في المجتمع: جفاء الرَّجل زوجته وأبنائه، وذلك مِن أعظم أسباب الفراق وتفكُّك الأُسر، فتجده إذا دخل بيته تغيَّرت صورته، وعلا صوته، فنهر هذا، وضرب ذاك، وربَّما يكون ذلك بدون سبب أو مبرِّر، فيتحوَّل البيت مِن سكن إلى حجيم، ومِن طمأنينة إلى قلق وإزعاج، وكلُّ ذلك بسبب جفاء الرَّجل وقسوة طبعة، يقول ابن سعدي: (وكذلك رحمة الأطفال الصِّغار، والرِّقَّة عليهم، وإدخال السُّرور عليهم مِن الرَّحمة، وأمَّا عدم المبالاة بهم، وعدم الرِّقَّة عليهم، فمِن الجَفَاء والغِلْظَة والقسوة، كما قال بعض جُفاة الأعراب حين رأى النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقبِّلون أولادهم الصِّغار، فقال ذلك الأعرابي: إنَّ لي عشرة مِن الولد ما قبَّلت واحدًا منهم، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَوَ أَمْلِك لك شيئًا أن نزع الله مِن قلبك الرَّحمة؟) [رواه البخارى ومسلم] [بهجة قلوب الأبرار].
وقال ابن عثيمين: (أمَّا ما يفعله بعض النَّاس مِن الجَفَاء والغِلْظَة بالنِّسبة للصِّبيان، فتجده لا يمكِّن صبيَّه مِن أن يحضر على مجلسه، ولا أن يمكِّن صبيَّه مِن أن يطلب منه شيئًا، وإذا رآه عند الرِّجال انتهره، فهذا خلاف السُّنَّة، وخلاف الرَّحمة) [شرح رياض الصالحين،لابن عثيمين].
5- ومِن الصُّور كذلك: جفاء الصَّديق لأي سببٍ كائن مِن الأسباب، فربَّما يجفو صديقه كِبْرًا وتيهًا، وربَّما يجفوه لمشكلة لا تحتمل الجَفاء، وربَّما لوِشَايَة سمعها عنه، أو خبر نَمَى إليه أو غير ذلك.
#### من أسباب الوقوع في الجَفَاء:
1- ضعف الإيمان وقلَّة العلم، لذا كان أهل البداوة أكثر النَّاس جفاءً، وأغلظهم طبعًا وأقساهم قلوبًا، وأضعفهم إيمانًا.
2- تزيين الشَّيطان.
3- الحسد قد يولِّد الجَفَاء بين المتحاسدين، ويوسِّع النُّفْرَة بينهما؛ لأنَّه (إذا شاع الحسد بين النَّاس، وحسد بعضهم بعضًا زال الخير عنهم، وحلَّ الجَفَاء، واشتعلت نار الفتنة، وعمَّتهم المصيبة والمحنة) [صيد الأفكار،لحسين المهدى].
4- البعد عن المنهج الصَّحيح في معاملة الآخرين.
#### من الوسائل المعينة على ترك الجَفَاء:
1- التَّزوُّد بالإيمان، والتَّضلُّع مِن العلم النَّافع، فإنَّهما كفيلان بترقيق الطَّبع، وتحسين الخُلُق.
2- الاقتداء بسيِّد الخَلْق أجمعين صلى الله عليه وسلم في كيفيَّة معاملته للنَّاس وحرصه عليهم، ورِفْقِه بهم.
3- الاختلاط بالنَّاس والصَّبر على أذاهم سببٌ آخر لترك هذا الخُلُق، وكلَّما بعد الإنسان عن النَّاس وتجمُّعاتهم، كلَّما غَلُظ طبعه، وقسى قلبه، وساء خُلُقه، لعدم وجود مَن يعاشره، ويتعلَّم منه ويصبر عليه، كما هو الحال في أهل البادية.
4- التَّناصح بين الإخوان، والعتاب بينهم بالحسنى؛ كفيلٌ بأن يهذِّب الطِّباع، ويُذْهِب الجَفَاء.
5- أن يعلم مَن ابتُلِي بهذا الخُلُق أنَّه قد يعرِّض نفسه للعقوبة والعذاب إن داوم على سوء الخُلُق، وقسوة القلب.
6- أن يعلم أنَّه قد يخسر كلَّ أصدقائه وأحبابه.
#### الصَّبر على الجَفَاء:
قال ابن حزم الأندلسي: (الصَّبر على الجَفَاء ينقسم ثلاثة أقسام:
1- فصبر عمَّن يقدر عليك، ولا تقدر عليه.
2- وصبر عمَّن تقدر عليه، ولا يقدر عليك.
3- وصبر عمَّن لا تقدر عليه، ولا يقدر عليك.
فالأوَّل ذلٌّ ومهانة، وليس مِن الفضائل، والرأي لمن خشي ما هو أشدُّ ممَّا يصبر عليه المتاركة والمباعدة، والثَّاني فضلٌ وبِرٌّ، وهو الحِلْم على الحقيقة، وهو الذي يوصف به الفضلاء، والثَّالث ينقسم قسمين:
1- إمَّا أن يكون الجَفَاء ممَّن لم يقع منه إلَّا على سبيل الغلط، ويعلم قبح ما أتى به، ويندم عليه، فالصَّبر عليه فضل وفرض، وهو حِلْم على الحقيقة.
2- وأمَّا مَن كان لا يدري مقدار نفسه، ويظنُّ أنَّ لها حقًّا يستطيل به، فلا يندم على ما سلف منه، فالصَّبر عليه ذلٌّ للصَّابر، وإفساد للمصبور عليه؛ لأنَّه يزيد استشراءً، والمقارضة له سخف، والصَّواب إعلامه بأنَّه كان ممكنًا أن ينتصر منه، وإنَّه إنَّما ترك ذلك استرذالًا له فقط، وصيانة عن مراجعته، ولا يُزاد على ذلك، وأمَّا جفاء السِّفْلة فليس جزاؤه إلَّا النَّكال وحده) [الأخلاق والسير].
#### الجَفَاء في الأدب والأمثال:
1- مَن جعل لنفسه مِن حُسن الظَّنِّ بإخوانه نصيبًا أراح قلبَه.
يعني أنَّ الرَّجل إذا رأى مِن أخيه إعراضًا وتغيُّـرًا، فَحَمَله منه على وجهٍ حَسَنٍ، وطلب له المخارج والحذر، خَفَّفَ ذلك عن قلبه، وقَلَّ منه غيظه، وهذا مِن قول أكثم بن صيفي، يُضْرَب في حسن الظَّنِّ بالأخ عند ظهور الجَفَاء منه [مجمع الأمثال،للميدانى].
2- وقالوا: مَن تحلَّى بالوفاء وتخلَّى عن الجَفاء، فذلك مِن إخوان الصَّفاء [غرر الخصائص الواضحة،للوطواط].
3- وقال آخر: ذكر أيام الجَفاء في أيام الصَّفاء جفاء [زهر الأكم،لنور الدين اليوسى].
4- وقال آخر: ظلُّ الجَفاء يكسف شمس الصَّفاء [يتيمة الدهر،للثعالبى].
5- وقال بعض الحكماء: العتاب علامة الوفاء، وسلاح الأكفاء، وحاصد الجَفاء [بهجة المجالس،لابن عبد البر].
مختارات