86. سلمة بن الأكوع
سلمة بن الأكوع
"كان سلمة بن الأكوع من أشد الناس بأسا، وأشجعهم قلبا، ويسبق الفرس عدوا"
[المؤرخون]
هل أتاك نبأ سلمة بن الأكوع؟!!.
إنه أعجوبة من أعاجيب الدهر، ونادرة من نوادر الزمان …
فهو عداء (١) لا يسبق …
ورام لا يخطئ …
ومقدام لا يهاب …
ومغامر لا تنتهي عجائب مغامراته.
تقرأ أخبار بطولاته؛ فيخيل إليك أنها ضرب من الأساطير (٢)، وما هي بالأساطير … فقد رواها الشيخان مسلم والبخاري وأثبتاها في صحيحيهما.
* * *
كان لسلمة بن الأكوع في مكة أموال وعقار؛ فاعتنق الإسلام، وهاجر إلى الله ورسوله ﷺ، وخلف وراءه كل ما يملك …
وجعل يعمل في المدينة سائسا (٣) لفرس طلحة بن عبيد الله؛ لقاء طعامه … فما كان يريد من الدنيا غير لقيمات يقيم بها صلبه، ويستعين بها على طاعة الله والجهاد في سبيله.
ولعلك - أيها القارئ الكريم - قد نزع (٤) بك الشوق إلى سماع طرف من أخبار هذا الفارس، والوقوف على بعض عجائبه؛ فإليك شيئا منها:
* * *
خرج رسول الله ﷺ بألف وخمسمائة من أصحابه؛ فيهم سلمة بن الأكوع يريد العمرة … فلما بلغ قريشا نبأ خروجه؛ قامت له تريد أن تصده عن البيت الحرام؛ فنزل ﵇ بمن معه في الحديبية، وأوفد عثمان بن عفان (٥) إلى مكة سفيرا بينه وبين قريش …
لكن الأخبار ما لبثت أن جاءت بأن قريشا قتلت عثمان؛ فعزم الرسول ﷺ على حربهم، ودعا المسلمين الذين معه إلى مبايعته على القتال والموت؛ قال سلمة بن الأكوع:
لما دعانا رسول الله ﷺ إلى مبايعته عند الشجرة؛ بايعته أول الناس …
ثم طفق المسلمون يبايعونه حتى إذا بلغ نحوا من نصف الناس؛ التفت إلي وقال:
(بايع يا سلمة).
فقلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس.
قال: (وأيضا)؛ فبايعته الثانية …
وعند ذلك رآني ﵇ أعزل (٦) من السلاح؛ فأعطاني ترسا أحتمي به، ثم جعل المسلمون يبايعونه؛ حتى إذا بلغ آخر الناس؛ التفت إلي وقال:
(ألا تبايعني يا سلمة؟!).
فقلت: قد بايعتك يا رسول الله فى أول الناس، وفي وسطهم.
قال: (وأيضا)؛ فبايعته الثالثة …
ثم نظر إلى يدي وقال: (أين الترس الذي أعطيتك؟).
فقلت: يا رسول الله؛ لقيني عمي عامر؛ فوجدته أعزل فأعطيته إياه …
فضحك رسول الله ﷺ.
* * *
قال سلمة:
ثم إن المشركين راسلونا بالصلح؛ فاصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض …
فأتيت شجرة وكنست ما تحتها من شوك واضجعت في ظلها …
وما هو إلا قليل حتى أتاني أربعة من المشركين؛ فعلقوا أسلحتهم على الشجرة، واضجعوا قريبا منى وجعلوا ينالون من رسول الله ﷺ …
فأبغضتهم، وتحولت عنهم خوفا من أن أستثار؛ فأبدأهم بقتال.
وبينما هم كذلك، إذ نادى مناد من أسفل الوادي:
يا للمهاجرين (٧)؛ لقد قتل المشركون ابن زنيم …
فامتشقت السيف في يميني، ووثبت على أسلحتهم؛ فجعلتها حزمة في يساري، وشددت عليهم قبل أن ينهضوا … كل ذلك في طرفة عين، ثم بادرتهم قائلا:
والذي أكرم وجه محمد ﷺ، لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت عنقه.
ثم أوثقتهم، وقرنت بعضهم إلى بعض … وجئت بهم أسوقهم إلى رسول الله ﷺ.
* * *
ثم إن رسول الله ﷺ مضى بأصحابه ومعه سلمة بن الأكوع حتى بلغ المدينة.
وما إن استقر بها قليلا حتى أمر غلامه رباحا أن يخرج بإبله ليرعاها في البادية؛ فعزم سلمه على أن يخرج معه ليرعى فرس طلحة بن عبيد الله أيضا.
* * *
توشح سلمة بن الأكوع قوسه وحمل نباله، وانطلق هو وصاحبه حتى بلغا مكانا شمالي المدينة يقال له "الغار" … فأراحا فيه سوائمهما (٨)، وباتا هناك ليلتهما.
وفي الهزيع (٩) الأخير من الليل استيقظا على كتيبة من فرسان غطفان؛ عدتها أربعون فارسا؛ أغارت على إبل رسول الله ﷺ فاستاقتها، وقتلت ولدا لأبي ذر الغفاري (١٠) كان عند الإبل.
* * *
قال سلمة بن الأكوع: عند ذلك قلت لرباح:
خذ هذا الفرس وأده إلى صاحبه، وأخبر رسول الله ﷺ أن المشركين أغاروا على إبله.
ثم ارتقيت أكمة فوق ثنية الوداع، واستقبلت المدينة، وناديت بأعلى صوتي: واصباحاه (١١) ثلاثا …
ثم خرجت أعدو في إثر القوم؛ حتى غدوت غير بعيد منهم؛ فوترت قوسي ورميت واحدا منهم بسهم فاستقر في كتفه؛ فقلت: خذه …
وأنا ابن الأكوع … اليوم يوم الرضع
ثم طفقت أطردهم وأرميهم وأنا أرتجز (١٢) … وكانوا في كل مرة يخلفون وراءهم بعضا من إبل رسول ﷺ، فأجعلها خلفي وأمضي في إثرهم.
فإذا رجع إلي فارس منهم يريد قتلي كففت عن العدو، والتمست شجرة، وتترست في جذعها، وجعلت أرميه؛ فيرتد عني.
* * *
ثم ما زلت أطردهم حتى دخلوا في طريق ضيق يكنفه (١٣) جبلان …
فتسلقت أحدهما، وجعلت أهيل عليهم الحجارة من أعلاه؛ فتتساقط فوقهم وبين أيديهم وأرجلهم.
ثم ما فتئت أتبعهم؛ حتى لم يبق شيء من إبل رسول ﷺ إلا خلوا بيني وبينه، وجعلته ورائي.
لكن ذلك لم يثنني عن مطاردتهم … فأخذوا يرمون أثقالهم ليتخففوا منها، فألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحا …
فكانوا كلما طرحوا شيئا؛ جعلت عليه علامة من الحجارة حتى يهتدي
له رسول الله ﷺ وخلفته ورائي.
* * *
ثم أدركهم وأدركني الإعياء (١٤)؛ فجلسوا يستريحون ويتغدون، وجلست على رأس جبل غير بعيد عنهم؛ أنظر إليهم وأرقبهم.
وفيما هم كذلك أتاهم رجل من قومهم ونظر إلى ما حل بهم؛ فقال:
ما هذا الذي أرى؟!.
فأشاروا إلي وقالوا:
لقينا من شوم هذا الرجل ما لقينا، فوالله ما فارقنا منذ الغلس وهو يرمينا؛ حتى انتزع منا كل شيء في أيدينا.
قال: فليقم إليه نفر منكم أربعة، فصعد إلي أربعة منهم … فلما اقتربوا مني بحيث يسمعون كلامي؛ قلت لهم:
هل تعرفونني؟.
قالوا: لا؛ ومن أنت؟!.
قلت: أنا سلمة بن الأكوع، والذي كرم وجه محمد ﷺ، لا أطلب رجلا منكم إلا أدركته، ولا يطلبني رجل منكم فيدركني.
فقال أحدهم: أنا أظن ذلك.
ثم رجعوا عني …
فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله ﷺ قد أقبلوا من المدينة؛ فإذا أولهم الأخرم الأسدي، وعلى إثره أبو قتادة الأنصاري وعلى إثره
المقداد بن الأسود الكندي (١٥).
فما إن رآهم القوم حتى هبوا وولوا مدبرين؛ فهم الأخرم بأن يلحق بهم … فأخذت بعنان فرسه، ووقفت في وجهه، وقلت له:
احذر يا أخرم أن تلحق بهم فيقطعوك عنا وينفردوا بك، وتريث حتى يأتي رسول الله ﷺ مع أصحابه.
فقال: يا سلمة؛ إن كنت تؤمن بالله ورسوله ﷺ واليوم الآخر؛ وتعلم أن الجنة حق والنار حق … فلا تحل بيني وبين الشهادة.
قال سلمة:
فخليت سبيله؛ فانطلق وراءهم حتى التقى مع مقدم القوم؛ فعقر فرسه … لكن هذا كر على الأخرم فطعنه طعنة أردته؛ فخر صريعا شهيدا.
* * *
قال سلمة:
فوالذي كرم وجه محمد ﷺ؛ إني تبعتهم بعد ذلك أعدوا على رجلي؛
حتى انفصلت عن فرسان المسلمين … فما أراهم ولا أرى من غبارهم شيئا.
فلما دنت الشمس إلى المغيب؛ أرادوا أن يعدلوا إلى شعب فيه ماء؛ يقال له: "ذو قرد" ليرتووا منه …
فلما رأوني في إثرهم تركوه؛ فما ذاقوا منه قطرة …
ثم انطلقوا يسرعون، وقد خلفوا وراءهم فرسين؛ فجئت بهما إلى رسول الله ﷺ …
فإذا هو وصحبه على الماء الذي دفعتهم عنه، وإذا رسول الله ﷺ قد أخذ الإبل التي استنقذتها منهم، ووضع يده على كل رمح وبردة خلفوها وراءهم، وإذا بلال (١٦) نحر ناقة وجعل يشوي لرسول الله ﷺ من كبدها وسنامها.
قال سلمة:
ولما أصبحنا نودي بالرحيل … فأردفني الرسول ﵇ خلفه على ناقته العضباء، ومضيت معه حتى بلغنا المدينة.
* * *
هنيئا لسلمة بن الأكوع أنه غدا رديف رسول الله صلوات الله عليه؛
فمس جسده جسد النبي الكريم ﷺ …
وهنيئا للإسلام فتاه الجريء المقدام …
ورضي الله عن سلمة بن الأكوع أعجوبة الفرسان …
وسباق الخيول الصافنات (*).
_________
(١) عداء: شديد العدو، وهو الجري.
(٢) الأساطير: الأباطيل.
(٣) السائس: الذي يقوم على ترويض الخيول ورعاية شئونها.
(٤) نزع بك الشوق: دفعك.
(٥) عثمان بن عفان: انظره في الكتاب الثامن من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٦) أعزل: متجرد من السلاح.
(٧) يا للمهاجرين: أسلوب استغاثه لطلب النجدة.
(٨) سوائمهما: إبلهما ومواشيهما.
(٩) الهزيع الأخير: الثلث الأخير.
(١٠) أبو ذر الغفاري: انظره في الكتاب الثاني من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(١١) واصباحاه: أسلوب ندبة، والغرض منه أن تدعو إنسانا أو قوما إلى أمر مهم كالحرب.
(١٢) أرتجز: أقول شعرا على بحر الرجز.
(١٣) يكنفه: يحيط به.
(١٤) الإعياء: التعب.
(١٥) المقداد بن عمرو: انظره ص ٤٠٩.
(١٦) بلال بن رباح: انظره في الكتاب الخامس من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
مختارات