77. عبد الله بن الزبير
عبد الله بن الزبير
طرف من أخباره
"والله! … إن الذين كبروا عند ولادة عبد الله بن الزبير؛ أكثر وأبر من الذين كبروا عند موته" [عبد الله بن عمر بن الخطاب]
بلغت ذات النطاقين (١) أسماء بنت أبي بكر الصديق مشارف (٢) يثرب متعبة مجهدة …
فقد كان المهاجرون الآخرون يعانون من مشاق السفر وحدها.
أما هي؛ فقد كانت تعاني فوق مشاق السفر مشاق الحمل أيضا.
وما كادت أسماء تحط رحالها في قباء من ضواحي يثرب حتى جاءها المخاض (٣).
فولدت غلاما أقام مولده مدينة الرسول ﷺ، وأقعدها.
ذلك أن يهود المدينة كانوا قد أذاعوا بين الناس أن أحبارهم (٤) عقدوا للمسلمين المهاجرين سحرا.
وأن هذا السحر يصيبهم بالعقم …
فلا يولد لهم بعد ذلك مولود.
* * *
فما كاد نبأ ولادة الغلام السعيد ينتشر بين الناس؛ حتى دوت أرجاء مدينة الرسول الأعظم ﷺ بالتهليل والتكبير، وأقبل المسلمون بعضهم على بعض يتباشرون (٥) ويهتفون:
كذب اليهود …
كذب اليهود …
* * *
حمل المولود الجديد السعيد إلى رسول الله ﷺ؛ فوضعه في حجره، ودعا بعجوة فلاكها في فمه الشريف، ثم أدخلها في فم الغلام المحفوظ فأساغها (٦) …
ثم سماه عبد الله؛ وهو اسم جده الصديق رضوان الله عليه.
وكناه (٧) أبا بكر؛ وهي كنيته.
ثم أمر الصديق أن يؤذن في أذنه، فأذن له.
فكان أول شيء دخل في جوف ذلك المولود المحظوظ؛ ريق رسول الله صلوات الله وسلامه عليه …
وكان أول صوت استقر في أذنه صوت الأذان؛ رفعه الصديق ﵁ وأرضاه.
* * *
وقد اجتمع لعبد الله بن الزبير من كرم الحسب ما لم يجتمع إلا للقليل النادر من الناس …
فأبوه: الزبير بن العوام؛ حواري (٨) رسول الله ﷺ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة …
وأمه: أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين …
وجده لأمه: أبو بكر الصديق؛ خليفة رسول الله ﷺ، وصفيه …
وخالته: عائشة أم المؤمنين؛ البريئة المبرأة …
وجدته لأبيه: صفية بنت عبد المطلب (٩)؛ عمة الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
وعمة أبيه: خديجة بنت خويلد؛ سيدة نساء العرب.
فهل يسمو على ذلك العز غير عز الإسلام …
وهل يعلو على هذا المجد غير مجد الإيمان؟!.
* * *
نبت عبد الله بن الزبير في بيت النبوة، وعلى أرض ذلك البيت الطاهر درج، وبآدابه السامية تأدب.
فقد كان أحب خلق الله إلى خالته عائشة؛ بعد رسول الله الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم …
وبعد والدها الصديق ﵁ وأرضاه.
* * *
ولما بلغ عبد الله بن الزبير السابعة من عمره؛ أمره أبوه الزبير بن العوام أن
يذهب إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه وأن يبايعه على السمع والطاعة في المنشط والمكره؛ فمضى إلى النبي الكريم ﷺ ومعه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وكان غلاما صغيرا في مثل سنه.
فلما رآهما النبي ﷺ مقبلين عليه لمبايعته (١٠)؛ كما يفعل كملة (١١) الرجال … تبسم سرورا من صنيعهما ومد يده الكريمة إليهما وبايعهما.
* * *
ظل عبد الله بن الزبير ما امتدت به الحياة يذكر هذه البيعة …
والتزم في أمره كله وأمر أولاده بما كان عليه رسول الله ﷺ … فقد غاب ابنه مرة عن البيت وطال غيابه؛ فلما عاد قال له:
أين كنت يا بني؟!.
فقال: وجدت قوما ما رأيت أفضل منهم …
لقد كانوا يذكرون الله تعالى؛ فيرغي (١٢) أحدهم ويرعد (١٣) حتى يغشى (١٤) عليه من خشية الله؛ فقعدت معهم نهاري كله.
فقال له: لا تقعد معهم بعد هذه المرة يا بني أبدا …
فإني رأيت رسول الله ﷺ؛ يتلو القرآن، ويذكر الله ﵎؛ أطيب الذكر وأعمقه وأصدقه.
ورأيت أبا بكر وعمر وعثمان وعليا ﵃ يتلون القرآن
ويذكرون الله أيضا؛ فما كان يصيبهم شيء من هذا.
أفتظن أن أصحابك هؤلاء أخشع لله من أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي؟!!.
* * *
وكما نشئ عبد الله بن الزبير على الصلاح والتقوى؛ فقد نشئ على الفروسية وممارسة الحروب منذ نعومة أظفاره (١٥).
فكان أبوه يحرص أشد الحرص على أن يشهده الغزوات …
وأن يأخذه معه إلى البلاد النائية (١٦) ليحضر المعارك، ويشهد الفتوح …
فقد اصطحبه معه يوم اليرموك من المدينة إلى بلاد الشام …
وخصه بجواد من عتاق (١٧) الخيل …
واستأجر له قيما يرعاه.
فأتيح له أن يشهد أعظم معركة في تاريخ الإسلام عن كثب …
وأن يرى الجيوش الجرارة في الكر والفر (١٨) …
وأن يصحبها في الهزيمة والنصر.
فغدا (١٩) مسعر (٢٠) حرب؛ كما كان عابد ليل.
* * *
لم يتأخر عبد الله بن الزبير عن غزوة غزاها المسلمون؛ منذ غدا أهلا لحمل السلاح …
وكان له في كل معركة خاضها المجاهدون؛ أثر يذكر فيشكر.
من ذلك؛ أن خليفة المسلمين عثمان بن عفان (٢١) ﵁ وأرضاه أذن لواليه على مصر بغزو أفريقية …
فمضى الجيش الغازي إلى غايته.
لكنه ما لبث أن انقطعت أخباره عن الخليفة؛ فأهمه أمر ذلك الجيش وأغمه …
فبعث عبد الله بن الزبير على رأس جماعة من فرسان المسلمين؛ لإمداد الجيش، وموافاته بأخباره (٢٢).
* * *
التقى عبد الله بن الزبير بالجيش الغازي، واطلع على أحواله …
فوجد أن قائده كان يقاتل المشركين من الصباح إلى الظهر في كل يوم.
ثم يركن جيشه وجيشهم إلى الراحة من قسوة الجو وشدة الحر.
فما أسرع أن أشار عليه بأن يقسم جيشه إلى قسمين:
قسم يحارب نصف النهار الأول …
وقسم يحارب نصف النهار الثاني …
فيتبادل الفريقان الراحة، ويستمر القتال …
وبذلك لا يعطي العدو الفرصة لالتقاط أنفاسه.
فسر قائد الجيش بالخطة المقترحة، وأمر بتنفيذها.
وتخلى عن القيادة لعبد الله بن الزبير طائعا مختارا.
* * *
اقتتل الجيشان في اليوم التالي كما كانا يقتتلان كل يوم …
فلما حان وقت الظهر؛ شرع الأعداء ينصرفون على عادتهم.
فما راعهم (٢٣) إلا أن فوجئوا بالمسلمين وهم يواصلون القتال بجيش مشبوب (٢٤) القوة …
مشحوذ (٢٥) العزيمة …
موفور (٢٦) النشاط …
فدب في قلوبهم الذعر (٢٧) …
وحل في صفوفهم الخلل …
وبدت عليهم بوادر الهزيمة.
عند ذلك رأى ابن الزبير الفرصة سانحة؛ فاختار ثلاثين من رجاله الأشداء، وقال لهم:
صونوا (٢٨) ظهري، وسترون ما أنا فاعل.
* * *
كان "جرجير" ملك الأعداء، وقائد جيشهم يستقر في وسط عسكره راكبا برذونه (٢٩) الأشهب (٣٠) …
وكانت معه جاريتان تظللان عليه بريش الطواويس.
فقال عبد الله بن الزبير لرجاله الذين اختارهم:
إني ماض إليه؛ فاتبعوني …
وردوا عني كيد من يعترضني.
ثم مضى نحو "جرجير" رابط الجأش (٣١) …
ثابت العزم …
رصين الخطا.
وجعل يشق الصفوف بكلتا يديه في هدوء …
فظنه القوم رسولا جاء من لدن المسلمين للمفاوضة.
فلما غدا في وسط العسكر؛ عرف الملك قصده، وخشي بطشه …
فولى هاربا.
فأدركه عبد الله بن الزبير، وطعنه طعنة طرحته أرضا.
ثم أكب فوقه، وأجهز عليه (٣٢)، واحتز رأسه، ونصبه فوق رمحه …
ثم رفع صوته بالتكبير؛ فكبر المسلمون لتكبيره …
فهزت الحمية نفوس المسلمين …
ودب الذعر (٣٣) في قلوب المشركين.
فولوا الأدبار …
ومنحوا ظهورهم لابن الزبير، وجنده المقاتلين في سبيل الله.
* * *
ولقد أكرم الله عبد الله بن الزبير؛ فحظي فوق مزاياه كلها بسمو التقوى وطهر الصلاح؛ حيث عاش قواما لليل صواما للنهار؛ معلق القلب ببيوت الله …
فكان الناس يدعونه "حمامة المسجد".
وقد عرف عنه أنه جعل ليالي عمره ثلاثا:
فليلة يقضيها وهو قائم يصلي حتى الصباح …
وليلة يقضيها وهو راكع حتى الصباح …
وليلة يقضيها وهو ساجد حتى الصباح أيضا.
* * *
ولقد كانت له مواقف في المواسم تهز أفئدة المسلمين هزا، وتثير في قلوبهم كوامن الإيمان …
من ذلك ما رواه محمد بن عبد الله الثقفي؛ قال:
خرج علينا عبد الله بن الزبير قبل التروية (٣٤) بيوم - وهو محرم - فلبى تلبية
ما سمعت بأحسن منها ولا بمثلها قط، ثم حمد الله أوفر الحمد، وأثنى عليه أجزل الثناء، ثم قال:
أما بعد … فإنكم قد جئتم من آفاق شتى وفودا إلى الله ﷿؛ فحق على الله أن يكرم وفده …
فمن جاء منكم يطلب ما عند الله؛ فإن طالب الله لا يخيب …
وصدقوا قولكم بالفعل؛ فإن ملاك القول العمل …
والنية النية؛ فإنما الأعمال بالنيات …
والله الله في أيامكم هذه؛ فإنها أيام تغفر فيها الذنوب.
ثم لبى ولبى الناس بتلبيته …
فما رأيت يوما قط أكثر باكيا من ذلك اليوم.
* * *
وبعد …
فلقد ظل عبد الله بن الزبير طوال عمره يناضل عما كان يعتقد أنه حق.
حتى قتل عند الكعبة المعظمة بحجر من منجنيق (٣٥) الحجاج بن يوسف الثقفي (٣٦).
فلما سقط صريعا؛ كبر الحجاج وجنوده …
فسمع عبد الله بن عمر (٣٧) تكبيرهم؛ فقال:
"والله! … إن الذين كبروا عند ولادة عبد الله بن الزبير؛ أكثر وأبر من الذين كبروا عند موته" (*).
_________
(١) أسماء بنت أبي بكر: انظرها في كتاب صور من حياة الصحابيات للمؤلف؛ الناشر دار الأدب الإسلامي.
(٢) مشارف يثرب: الأماكن المطلة عليها.
(٣) المخاض: الطلق ووجع الولادة.
(٤) الحبر: رئيس الكهنة عند اليهود.
(٥) يتباشرون: يبشر بعضهم بعضا.
(٦) أساغها: ابتلعها.
(٧) الكنية: ما صدر بأب أو أم كأبي بكر وأم المؤمنين.
(٨) حواريو الرسل: الخاصة من أصحابهم.
(٩) صفية بنت عبد المطلب: انظرها في كتاب صور من حياة الصحابيات للمؤلف؛ الناشر دار الأدب الإسلامي.
(١٠) لمبايعته: تأييده على نصرة الإسلام.
(١١) كملة الرجال: جمع كامل وهو الجامع للمناقب الحسنة.
(١٢) فيرغي: يضج غضبا.
(١٣) يرعد: يرتعد خوفا.
(١٤) يغشى عليه: يغمى عليه فلا يدري شيئا مما حوله.
(١٥) منذ نعومة أظفاره: كناية عن صغر السن.
(١٦) النائية: البعيدة.
(١٧) عتاق الخيل: الخيل الأصيلة الكريمة
(١٨) الكر والفر: حركة الجنود في هجومها وتراجعها.
(١٩) فغدا: أصبح وصار.
(٢٠) مسعر حرب: بطلها وموقدها.
(٢١) عثمان بن عفان: انظره في الكتاب الثامن من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٢٢) موافاته بأخباره: إبلاغه بأخباره.
(٢٣) الروع: الفزع والخوف.
(٢٤) مشبوب القوة: متقد قوة.
(٢٥) مشحوذ العزيمة: شديد الإصرار.
(٢٦) موفور النشاط: تام النشاط.
(٢٧) الذعر: الخوف والهلع.
(٢٨) صونوا ظهري: احموا ظهري.
(٢٩) البرذون: دابة فوق الحمار ودون الحصان.
(٣٠) الأشهب: الذي خالط بياضه سواده.
(٣١) رابط الجأش: قوي الإرادة.
(٣٢) أجهز عليه: قتله.
(٣٣) دب الذعر: دخل الخوف قلوبهم.
(٣٤) يوم التروية: هو اليوم الثامن من ذي الحجة، وسمي بالتروية لأن الحجيج يتروون فيه بالماء قبل النهوض إلى منى؛ أي يتزودون بالماء.
(٣٥) المنجنيق: آلة حربية ترمى بها القذائف.
(٣٦) انظر قصة مقتل عبد الله بن الزبير ﵁ في كتاب صور من حياة الصحابيات للمؤلف؛ الناشر دار الأدب الإسلامي.
(٣٧) انظره: ص ٢٣٥.
مختارات