فضول الكلام
الحمد لله الذي أحسن خلق الإنسان وعدله،وألهمه نور الإيمان فزينه به وجمله، وعلمه البيان فقدمه به وفضله، وأمده بلسان يترجم به عما حواه القلب وعقله، فاللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير جرمه عظيم طاعته وجرمه، إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان وهما غاية الطاعة والعصيان، ومن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله، ففي حديث معاذ رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" وهل يكب الناس في النار على وجوههم ـ أو قال على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم " والمراد بحصائد الألسنة جزاء الكلام المحرم وعقوباته، فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمن زرع خيراً من قول أو عمل حصد الكرامة، ومن زرع شرا من قول أو عمل حصد الندامة.
وظاهر حديث معاذ يدل على أن أكثر ما يدخل الناس به النار النطق بألسنتهم، فإن معصية النطق يدخل فيها الشرك وهو أعظم الذنوب
عند الله عز وجل، ويدخل فيها القول على الله بغير علم وهو قرين الشرك، ويدخل فيها شهادة الزور والسحر والقذف وغير ذلك من الكبائر والصغائر كالكذب والغيبة والنميمة، وسائر المعاصي الفعلية لا يخلو غالبا من قول يقترن بها يكون معينا عليها.
وقد ورد في فضل الصمت أحاديث كثيرة، منها حديث سفيان بن عبد الله الثقفي قال: " قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف على؟ قال: هذا وأخذ بلسانه ".
وفي كتاب الإيمان في صحيح البخاري قوله: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده "، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: " قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، ففيه أمر بقول الخير وبالصمت عما عداه، فالكلام إما أن يكون خيرا فيكون مأمورا بقوله، وإما أن يكون غير ذلك فيكون مأموراً بالصمت عنه، وقد قال الله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18).
وعن سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة " أي من أدى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه والصمت عما لا يعنيه، وأدى الحق الذي على فرجه من وضعه في الحلال وكفه عن الحرام، أضمن له الجنة، قال ابن بطال: دل الحديث على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه، فمن وقى شرهما وقى أعظم الشر، وعن أبي هريرة رضي الله عنه إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن العبد ليتكم بالكلمة ما يتبين فيها يزل في النار أبعد ما بين المشرق " وأخرجه مسلم بلفظ " أبعد ما بين المشرق والمغرب " قال ابن عبد البر: الكلمة التي يهوى بها صاحبها بسببها في النار هي التي يقولها عند السلطان الجائر. قوله
" ما يتبين فيها " قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: هي الكلمة التي لا يعرف القائل حسنها من قبحها، قال: فيحرم على الإنسان أن يتكلم بما لا يعرف حسنه من قبحه. قال النووي: في هذا الحديث حث على حفظ اللسان فينبغي لمن أراد ينطق أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق فإن ظهرت فيه مصلحة تكلم وإلا أمسك.
ومن الآثار الواردة في ذلك:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: والله الذي لا إله إلا هو ليس شيء أحوج إلى طول سجن من لساني. وكان يقول: يا لسان قل خيراً تغنم واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أنصف أذنيك من فيك، وإنما جعل لك أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تتكلم.
وعن الحسن البصري قال: كانوا يقولون: " إن لسان المؤمن وراء قلبه فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه ثم أمضاه، وإن لسان المنافق أمام قلبه فإذا هم بشي أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه ".
ـ وعن الحسن قال: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه.
ـ فإن قلت: فهذا الفضل الكبير للصمت ما سببه؟
فاعلم أن سببه كثرة آفات اللسان من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة والرياء والنفاق والفحش والمراء وتزكية النفس والخوض في الباطل والخصومة والفضل والتحريف والزيادة والنقصان وإيذاء الخلق وهتك العورات، فهذه آفات كثيرة، وهي سباقه إلى اللسان لا تثقل عليه، ولها حلاوة في القلب وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان، والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان فيطلقه بما يحب ويكفه عما لا يحب، فإن ذلك من غوامض العلم ففي الخوض خطر وفي الصمت سلامة، فلذلك عظمت فضيلته مع ما فيه من جمع الهم ودوام الوقار والفراغ للفكر والذكر العبادة، والسلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة فقد قال تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) (ق: 18).
ويدل على فضل لزوم الصمت أمر، وهو أن الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم فيه ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة.
أما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة فإن درأ المفاسد أولى من جلب المنافع، أما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول، والاشتغال به تضييع زمان وهو عين الخسران، فلا يبقي إلا القسم الرابع، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي ربع، وهذا الربع فيه خطر إذ قد يمتزج بما فيه إثم دقائق الرياء والتصنع وتزكية النفس امتزاجا يخفي دركه فيكون الإنسان به مخاطراً.
ونخص بتفصيل الذكرفيما يلي من مقالات بعض آفات اللسان التي عمت بها البلوى. والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البحر الرائق الشيخ أحمد فريد
جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي
مختارات