75. سعد بن معاذ
سعد بن معاذ
"صاحب راية الأنصار في بدر"
كان سعد بن معاذ يوم أهل نور النبوة …
فارسا من أعز فرسان يثرب نفرا …
وأعلاهم سلطانا، وأعرضهم جاها.
وكان في الذروة من بني عبد الأشهل …
وكان بنو عبد الأشهل في الذروة من الأوس (١).
وكان فتى الأوس وسيدها؛ يستمع إلى أخبار الداعية المكي مصعب بن عمير (٢)؛ فلا يعيرها كثيرا من اهتمامه …
وكان يعلم أنه حل في ضيافة ابن خالته سعد بن زرارة، وأنهما يتعاونان على بث الدعوة إلى الدين الجديد في ربوع يثرب؛ فلا يعترض سبيلهما؛ رعاية لحق ابن خالته عليه.
* * *
وبينما كان سيد الأوس يتجول في ضواحي ديار بني عبد الأشهل ومعه أسيد بن الحضير (٣)، إذ رأى الداعية المكي ومضيفه في بستان قريب من منازل قومه؛ يستريحان في ظل نخيله، ويستقيان من ماء بئره …
وقد اجتمع عليهما طائفة من المؤمنين بالدين الجديد، وطفقوا يسألون
مصعبا أن يفقههم في دين الله، وأن يقرئهم شيئا من كتاب الله …
فكبر ذلك على سيد الأوس، وعز عليه أن تبلغ الجرأة بابن خالته وضيفه حدا؛ جعلهما يجهران بدين محمد في عقر (٤) داره.
فقال لأسيد بن الحضير:
لا أبا لك (٥) يا أسيد؛ انطلق إليهما وانظر إلى هذا الرجل المكي الذي أتى ليعيب ديننا، وينتقص من آلهتنا ويفتن ضعفاءنا …
فازجره عن أن يقترب من ديارنا بعد اليوم …
ثم أردف يقول:
ولولا أن ابن زرارة هو ابن خالتي، وهو مني حيث تعلم؛ لكفيتك ذلك، ولكان لي معهما شأن آخر.
* * *
أخذ أسيد بن الحضير حربته، وتوجه نحو سعد بن زرارة وصاحبه مصعب بن عمير حتى وقف عليهما …
فابتدره (٦) مصعب بوجهه الطلق، وكلمته اللينة، وأخذ يدعوه إلى الإسلام، وطفق يقرأ عليه من آي القرآن ما يستلين القلوب القاسية، ويستميل النفوس النافرة، حتى أشرق وجهه، وانبسطت أساريره، وقال لمصعب:
ما أعذب هذا الكلام وما أحسنه!!! …
كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين الجديد؟.
قال: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، وتركع ركعتين لله … وهذا الماء منك قريب.
فقام أسيد إلى الماء من توه، فاغتسل، وشهد شهادة الحق، وركع ركعتين لله، ثم قال لمصعب:
إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله لكما الآن؛ فأحسنا التأتي (٧) له …
* * *
عاد أسيد إلى نادي (٨) القوم؛ فلما رآه سعد بن معاذ مقبلا؛ نظر إليه، وقال لمن معه:
أحلف بالله إن أسيدا جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به …
ثم التفت إليه وقال: ما فعلت يا أسيد؟!.
قال: كلمت الرجلين - فوالله - ما رأيت بهما بأسا …
فنهض سعد بن معاذ مغضبا، وأخذ الحربة من يد أسيد، وقال:
والله ما أراك أغنيت (٩) شيئا، ولئن دام الأمر على هذه الحال؛ لأجدنهما غدا في داري يدعوان زوجي وأولادي؛ إلى ترك ديني ودين آبائي وأجدادي.
* * *
توجه سعد بن معاذ إلى حيث يجلس مصعب وصاحبه …
فلما رآه ابن خالته سعد بن زرارة مقبلا، قال لمصعب:
أي مصعب؛ لقد جاءك - والله - سيد قومه، وإنه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم أحد؛ فانظر ماذا أنت فاعل؟ …
فما إن بلغهما سعد ووقف عليهما، حتى اتجه إلى ابن خالته، وبادره قائلا:
يا أبا أمامة … أما والله - لولا ما بيني وبينك من القرابة - ما طمعت (١٠) هذا مني … أتغشانا (١١) في ديارنا بما نكره؟!!.
فبادره مصعب بن عمير بوجهه الطلق وكلمته الحلوة، وقال:
ألا تقعد فتسمع؛ فإن رضيت ما نقوله ورغبت فيه؛ قبلت دعوتنا … وإن كرهته تحولنا عنك الساعة …
فاستلان هذا الكلام قلب سعد، وقال:
والله أنصفت … هات ما عندك.
فانطلق مصعب؛ فعرض الإسلام على سعد بن معاذ أحسن ما يكون العرض، وقرأ عليه من القرآن ما خشع له قلبه، واطمأنت إليه جوارحه (١٢)، وسبحت معه روحه.
فما لبث أن قال لمصعب:
كيف يصنع من أراد الدخول في هذا الخير؟ …
والله! ما سمعت كلاما أبر ولا أكرم من هذا الكلام.
ولم يبرح سيد الأوس مكانه؛ إلا بعد أن أعلن كلمة الحق، وانضم إلى ركب الإيمان.
* * *
أخذ سعد بن معاذ حربته، وعاد أدراجه إلى نادي قومه …
فلما رأوه مقبلا؛ قالوا:
نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به …
فلما بلغ النادي قال:
يا بني عبد الأشهل؛ كيف تعلمون أمري فيكم؟.
قالوا: سيدنا حقا، وأفضلنا رأيا، وأكملنا عقلا.
قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام؛ حتى تؤمنوا بالله ورسوله ﷺ …
فما أمسى في ديار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة؛ إلا مسلما أو مسلمة …
* * *
ومنذ ذلك اليوم انتقل مصعب بن عمير أول مبشر بالإسلام إلى منزل سيد الأوس سعد بن معاذ، واتخذ ييته موئلا (١٣) للدعوة …
حتى لم تبق دار من دور الأنصار؛ إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات …
وبذلك فتحت أبواب يثرب في وجوه المهاجرين من مكة …
فطفقوا يتوافدون عليها جماعات وفرادى …
ويجدون في رحابها الحماية والأمن.
* * *
لقد كان إسلام سعد بن معاذ خيرا للإسلام وبركة على المسلمين …
وكان له من جليل المواقف في نصرة الدعوة ما ملأ نفس الرسول الكريم ﷺ حبا له وإعجابا به.
ففي يوم بدر حين خرج الرسول ﷺ لاعتراض عير قريش؛ ما لبث أن وجد نفسه في موقف حرج …
ذلك أن المسلمين ما خرجوا مع النبي ﷺ إلا للاستيلاء على قافلة لا يزيد عدد حماتها على أربعين رجلا …
ثم تحول الأمر فجأة إلى مجابهة مع جيش لجب؛ يقوده العناد وتثيره الأحقاد، ويدفعه التحدي.
ولم يكن مع الرسول الكريم ﷺ إلا ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا … وكان عليه أن يتخذ القرار الحاسم …
فإما أن يعود إلى المدينة؛ تاركا جيش المشركين يجوس (١٤) خلال الديار ويباهي بقوته أمام القبائل الضاربة (١٥) بين مكة والمدينة …
وإما أن ينازل جيش المشركين الكبير بجيشه الصغير.
وكان هذا القرار يتوقف على موقف الأنصار …
ذلك لأن جل جيشه منهم …
وهم الذين سيحملون عبء المعركة على كواهلهم.
ثم إنهم حين بايعوا الرسول ﷺ في العقبة الثانية؛ تعهدوا له بحمايته مما يحمون منه أنفسهم وأبناءهم وأهليهم …
ولم يعدوه بالقتال معه خارج ديارهم.
عند ذلك وقف سعد بن معاذ، وأعلن في كلمات حاسمة حازمة؛ عزم الأنصار على خوض المعركة مع رسول الله ﷺ؛ فقال:
"يا رسول الله؛ لقد آمنا بك، وصدقناك …
وأعطيناك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة …
فامض يا رسول الله لما أردت …
فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر؛ لخضناه معك …
إنا يا رسول الله؛ لصبر في الحرب؛ صدق عند اللقاء …
ولعل الله يريك منا ما تقر (١٦) به عينك".
فسر الرسول ﷺ بذلك أشد السرور وأعظمه، وعقد راية الأنصار لسعد بن معاذ، وراية المهاجرين لعلي بن أبي طالب …
* * *
وفي يوم الخندق كان لسعد موقف مشهود …
ذلك أن النبي ﵇ حين رأى شدة وطأة الأحزاب (١٧) على أهل المدينة؛ أراد أن يخفف عنهم.
ففاوض قادة غطفان على إعطائهم ثلث ثمار المدينة؛ إذا تركوا قتال المسلمين؛ فرضوا بذلك.
فلما عرف سعد بن معاذ ما يدور بين الرسول الكريم ﷺ وغطفان؛ أقبل على النبي ﵇، وقال:
أهذا أمر تحبه؟ … فنصنعه (١٨) لك.
أم شيء أمرك الله به؟ … فنسمع ونطيع.
أم هو أمر تصنعه لنا؟ … لتخفف عنا.
فقال ﵇:
(بل هو أمر أصنعه لكم …
ووالله! ما صنعته إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم (١٩) عن يد واحدة).
فقال له سعد بن معاذ:
يا رسول الله …
والله! لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان؛ فما طمعوا أن ينالوا منا ثمرة إلا بشراء أو قرى (٢٠) …
وحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك؛ نعطيهم من أموالنا؟! …
والله! - يا رسول الله - ما نعطيهم إلا السيف … حتى يحكم الله بيننا وبينهم، وهو خير الحاكمين.
فسر الرسول الكريم ﷺ بمقالة سعد، وصرف الأمر.
* * *
وفي يوم الخندق هذا؛ أصيب سعد بسهم قطع أكحله (٢١)، وأورده موارد الموت …
وفيما كان فتى الإسلام سعد بن معاذ يحتضر؛ كان رسول الله صلوات الله عليه يضع رأسه في حجره، ويسجيه (٢٢) بثوب أبيض، وينظر إليه في لوعة وحزن، ويقول:
(اللهم إن سعدا جاهد في سبيلك …
وصدق رسولك.
.
وقضى الذي عليه …
فتقبل روحه بخير ما تقبلت به روحا).
فانبسطت أسارير سعد وهو يعالج سكرات الموت وفتح عينيه وقال:
السلام عليك يا رسول الله؛ أما إني أشهد أنك لرسول الله …
ثم فاضت روحه الطاهرة (*).
_________
(١) الأوس: قبيلة يمانية ارتحلت هي وأختها الخزرج إلى المدينة بعد خراب سد مأرب واستقرت فيها.
(٢) مصعب بن عمير: انظره ص ٣٨٩.
(٣) أسيد بن الحضير: انظره في الكتاب الثالث من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٤) في عقر داره: في وسط بيته.
(٥) لا أبا لك: كلمة تستعمل للذم والمدح، وهنا للذم.
(٦) فابتدره: أسرع إليه.
(٧) أحسنا التأني له: أحسنا عرض الأمر عليه.
(٨) النادي: مجلس القوم ومتحدثهم.
(٩) ما أغنيت شيئا: ما كفيت شيئا.
(١٠) ما طمعت: ما رجوت وما حرصت على.
(١١) أتغشانا في ديارنا: أتحضر في ديارنا.
(١٢) الجوارح: الأعضاء.
(١٣) موئلا: ملاذا ومرجعا.
(١٤) يجوس خلال الديار: يتجول في أرجاء الديار.
(١٥) الضاربة: المقيمة.
(١٦) تقر به عينك: تسعد به وترضى.
(١٧) الأحزاب: الجماعات من الناس، وهم هنا جنود الكفار من قريش وغطفان وبني قريظة وبهم سميت هذه الغزوة "غزوة الأحزاب".
(١٨) نصنعه لك: نؤديه لك.
(١٩) قد رمتكم عن يد واحدة: أي تجمعت على عداوتكم.
(٢٠) القرى: إكرام الضيف.
(٢١) الأكحل: عرق في وسط الذراع يكثر فصده، وهو عرق الحياة فإذا قطع في اليد لم يتوقف الدم.
(٢٢) يسجيه: يغطيه.
مختارات