46. عاصم بن ثابت
عاصم بن ثابت
"من قاتل فليقاتل كما يقاتل عاصم بن ثابت"
[محمد بن عبد الله]
خرجت قريش بقضها وقضيضها (١) وسادتها وعبيدها إلى لقاء محمد بن عبد الله في "أحد" …
فقد كانت الأضغان تشحن (٢) صدورها شحنا، والثارات لقتلاها في "بدر" تستعر (٣) في دمائها استعارا.
ولم يكفها ذلك، وإنما أخرجت معها العقائل من نساء قريش؛ ليحرضن الرجال على القتال، ويضرمن الحمية في نفوس الأبطال، ويشددن عزائمهم كلما ونوا أو ضعفوا.
وكان في جملة من خرجت معهن: هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، وريطة بنت منبه زوج عمرو بن العاص (٤)، وسلافة بنت سعد ومعها زوجها طلحة وأولادها الثلاثة: مسافع، والجلاس وكلاب، ونساء كثيرات غيرهن.
* * *
ولما التقى الجمعان عند "أحد" وأخذت نار الحرب تستعر، قامت هند بنت عتبة ومن معها من النسوة، فوقفن خلف الصفوف، وأخذن بأيديهن الدفوف، وجعلن يضربن عليها منشدات:
إن تقبلوا (٥) نعانق … ونفرش النمارق (٦)
أو تدبروا نفارق … فراق غير وامق (٧)
فكان نشيدهن هذا يضرم في صدور الفرسان الحمية، ويفعل في نفوس أزواجهن فعل السحر …
ثم وضعت المعركة أوزارها … وكتب فيها النصر لقريش على المسلمين، فقامت النسوة - وقد استفزتهن حميا الظفر (٨) ? وطفقن يجسن (٩) خلال ساحة المعركة مزغردات …
وأخذن يمثلن بالقتلى أفظع تمثيل: فبقرن البطون، وسملن العيون، وصلمن الآذان، وجدعن الأنوف.
بل إن إحداهن لم يشف غيظها إلا أن جعلت من الأنوف والآذان قلائد وخلاليل (١٠)، وتزينت بها انتقاما لأبيها وأخيها وعمها الذين قتلوا في "بدر" …
* * *
لكن سلافة بنت سعد كان لها شأن غير شأن أترابها (١١) من نساء قريش …
فقد كانت قلقة مضطربة، تنتظر أن يقبل عليها زوجها أو أحد أبنائها الثلاثة؛ لتقف على أخبارهم، وتشارك النسوة الأخريات فرحة النصر.
بيد (١٢) أن انتظارها قد طال عبثا، فأوغلت (١٣) في أرض المعركة، وجعلت تتفحص وجوه القتلى، فإذا بها تجد زوجها صريعا مضرجا بدمائه (١٤).
فهبت كاللبؤة (١٥) المذعورة، وجعلت تطلق بصرها في كل صوب بحثا عن أولادها: مسافع وكلاب والجلاس.
فما لبثت أن رأتهم ممددين على سفوح "أحد" …
أما مسافع وكلاب؛ فكانا قد فارقا الحياة، وأما الجلاس فوجدته وما تزال به بقية من ذماء (١٦).
* * *
أكبت سلافة على ابنها الذي يعالج سكرات الموت، ووضعت رأسه في حجرها، وجعلت تمسح الدماء عن جبينه وفمه، وقد يبس الدمع في عينيها من هول الكارثة.
ثم أقبلت عليه وهي تقول: من صرعك يا بني؟ … فهم أن يجيبها لكن حشرجة الموت منعته، فألحت عليه بالسؤال فقال: صرعني عاصم بن ثابت، و … وصرع أخي مسافعا، و … ثم لفظ آخر أنفاسه …
* * *
جن جنون سلافة بنت سعد، وجعلت تعول وتنشج (١٧)، وأقسمت باللات والعزى ألا تهدأ لها لوعة أو ترقأ (١٨) لعينيها دمعة إلا إذا ثأرت لها قريش من عاصم بن ثابت، وأعطتها قحف (١٩) رأسه لتشرب فيه الخمر …
ثم نذرت لمن يأسره أو يقتله ويأتيها برأسه، أن تعطيه ما يشاء من منفس المال.
فشاع خبر نذرها في قريش، وجعل كل فتى من فتيان مكة يتمنى أن لو ظفر بعاصم بن ثابت، وقدم رأسه لسلافة لعله يكون الفائز بجائزتها.
* * *
عاد المسلمون إلى المدينة بعد "أحد"، وجعلوا يتذاكرون المعركة وما كان فيها، فيترحمون على الأبطال الذين استشهدوا، وينوهون بالكماة الذين أبلوا وجالدوا … فذكروا فيمن ذكروهم عاصم بن ثابت، وعجبوا كيف اتفق له أن يردي ثلاثة إخوة من بيت واحد في جملة من أرداهم.
فقال قائل منهم: وهل في ذلك من عجب؟!! …
أفلا تذكرون رسول الله صلوات الله عليه حين سألنا قبيل "بدر" كيف تقاتلون؟ … فقام له عاصم بن ثابت، وأخذ قوسه بيده وقال:
إذا كان القوم قريبا مني مائة ذراع كان الرمي بالسهام …
فإذا دنوا حتى تنالهم الرماح كانت المداعسة (٢٠) إلى أن تتقصف الرماح …
فإذا تقصفت الرماح وضعناها وأخذنا السيوف وكانت المجالدة (٢١) …
فقال: (هكذا الحرب …
من قاتل فليقاتل كما يقاتل عاصم) …
* * *
لم يمض غير قليل على "أحد" حتى انتدب رسول الله ﷺ ستة من كرام الصحابة لبعث من بعوثه (٢٢)، وأمر عليهم عاصم بن ثابت.
فمضى النفر الأخيار لإنفاذ ما أمرهم به النبي، وفيما هم في بعض الطريق بين "عسفان"، ومكة علمت بهم جماعة من "هذيل"؛ فهبوا نحوهم مسرعين، وأحاطوا بهم إحاطة القيد بالعنق.
فامتشق عاصم ومن معه سيوفهم وهموا بمنازلة المطبقين عليهم.
فقال لهم الهذليون: إنكم لا قبل (٢٣) لكم بنا، وإننا أصحاب هذه الديار، وجمعنا كثير غفير، وجمعكم قليل ضئيل …
ثم إننا ورب الكعبة، لا نريد بكم شرا إذا استسلمتم لنا، ولكم على ذلك عهد الله وميثاقه …
فجعل صحابة رسول الله ﷺ ينظر بعضهم إلى بعض كأنهم يتشاورون فيما يصنعون …
فالتفت عاصم إلى أصحابه وقال:
أما أنا فلا أنزل في ذمة مشرك … ثم تذكر نذر سلافة الذي نذرته، وجرد سيفه وهو يقول:
اللهم إني أحمى (٢٤) لدينك وأدافع عنه …
فاحم لحمي وعظمي ولا تظفر بهما أحدا من أعداء الله …
ثم كر على "الهذليين"، وتبعه اثنان من أصحابه، هما مرثد الغنوي، وخالد الليثي … وظلوا يقاتلون حتى صرعوا واحدا بعد آخر.
وأما النفر الثلاثة الآخرون من صحابة الرسول وهم: عبد الله بن طارق، وزيد بن الدثنة، وخبيب بن عدي فقد استسلموا لآسريهم، فما لبث "الهذليون" أن غدروا بهم شر غدرة.
* * *
لم يكن "الهذليون" في بادئ الأمر يعلمون أن عاصم بن ثابت هو أحد قتلاهم، فلما عرفوا ذلك فرحوا به أشد الفرح، ومنوا أنفسهم بجزيل العطاء.
ولا غرو … ألم تكن سلافة بنت سعد قد نذرت إن هي ظفرت بعاصم بن ثابت أن تشرب في قحف رأسه الحمر؟.
ألم تكن قد جعلت لمن يأتيها به حيا أو ميتا ما يشاء من المال؟!.
* * *
لم يمض على مصرع عاصم بن ثابت بضع ساعات حتى علمت قريش بمقتله، فقد كانت "هذيل" تقيم قريبا من مكة.
فأرسل زعماء قريش رسولا من عندهم إلى قتلة عاصم يطلبون منهم رأسه؛ ليطفئوا بها غلة سلافة بنت سعد ويبروا قسمها، ويخففوا بعض أحزانها على أولادها الثلاثة الذين صرعهم عاصم بيده …
وحملوا الرسول مالا وفيرا، وأمروه أن يبذله للهذليين بسخاء لقاء رأس عاصم.
* * *
قام "الهذليون" إلى جسد عاصم بن ثابت ليفصلوا عنه رأسه؛ ففوجئوا
بأسراب النحل وجماعات الزنابير (٢٥) قد حطت عليه، وأحاطت به من كل جانب …
فكانوا كلما راموا (٢٦) الاقتراب من جثته طارت في وجوههم، ولدغتهم في عيونهم وجباههم وكل موضع في أجسادهم، وذادتهم (٢٧) عنه …
فلما يئسوا من الوصول إليه بعد أن حاولوا ذلك الكرة تلو الكرة؛ قال بعضهم لبعض:
دعوه حتى يجن (٢٨) عليه الليل؛ فإن الزنابير إذا حل الظلام؛ جلت عنه وخلته لكم.
ثم جلسوا ينتظرون غير بعيد …
* * *
لكنه ما كاد ينصرم النهار (٢٩) ويقبل الليل حتى تلبدت السماء بالغيوم الكثيفة الدكن (٣٠) …
وأرعد الجو وأزبد … وانهمر المطر انهمارا لم يشهد له المعمرون مثيلا منذ وجدوا على تلك الأرض …
وسرعان ما سالت الشعاب وامتلأت البطاح وغمرت الأودية …
واكتسح المنطقة سيل كسيل العرم …
فلما انبلج الصبح قامت "هذيل"، تبحث عن جسد عاصم في كل مكان؛ فلم تقف له على أثر …
ذلك أن السيل أخذه بعيدا بعيدا … ومضى به إلى حيث لا يعلمون …
فلقد استجاب الله جل وعز دعوة عاصم بن ثابت؛ فحمى جسده الطاهر من أن يمثل به (٣١) …
وصان رأسه الكريمة من أن يشرب في قحفها الخمر …
ولم يجعل للمشركين على المؤمنين سبيلا (*) …
_________
(١) قضها وقضيضها: جميعها.
(٢) تشحن: تملأ.
(٣) تستعر: تتقد.
(٤) عمرو بن العاص: انظره ص ٥٥١.
(٥) إن تقبلوا: أي على الحرب.
(٦) النمارق: الوسائد والمتكات.
(٧) غير وامق: غير محب.
(٨) استفزتهن حميا الظفر: أثارتهن خمرة النصر.
(٩) يجسن: يدرن عائثات فسادا.
(١٠) خلاليل أو خلاخيل: هي قطع من الحلي تلبسها النساء أسفل الساق.
(١١) أترابها: لداتها وصويحباتها.
(١٢) بيد أن: غير أن.
(١٣) أوغلت: دخلت بعيدا.
(١٤) مضرجا بدمائه: مصبوغا بدمائه.
(١٥) اللبؤة: أنثى الأسد.
(١٦) الذماء: بقية النفس.
(١٧) تعول وتنشج: ترفع صوتها بالبكاء.
(١٨) ترقأ: تجف.
(١٩) قحف رأسه: عظم رأسه المجوف.
(٢٠) المداعسة: المطاعنة بالرماح.
(٢١) المجالدة: المضاربة بالسيف.
(٢٢) لبعث من بعوثه: لأمر من أموره.
(٢٣) لا قبل لكم بنا: لا طاقة لكم بنا، ولا قدرة لكم علينا.
(٢٤) أحمى لدينك: أدافع عن دينك.
(٢٥) الزنابير: حشرة كالنحل غير أنها لا تنتج العسل.
(٢٦) راموا: أرادوا.
(٢٧) ذادتهم عنه: دفعتهم عنه.
(٢٨) يجن عليه الليل: يطبق عليه الليل.
(٢٩) ينصرم النهار: يمضي وينقطع.
(٣٠) الغيوم الدكن: الغيوم السود.
(٣١) التمثيل بالميت: العبث بجسده وتقطيعه.
مختارات