47. عتبة بن غزوان
عتبة بن غزوان
"إن لعتبة بن غزوان من الإسلام مكانا"
[عمر بن الخطاب]
أوى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعد صلاة العشاء إلى مضجعه؛ فقد كان يريد أن يصيب حظا من الراحة ليستعين به على العس (١) في الليل.
لكن النوم نفر عن عيني الخليفة، لأن البريد حمل إليه: أن جيوش الفرس المنهزمة أمام المسلمين كانت كلما أوشك جنده على أن يجهزوا (٢) عليها يأتيها المدد من هنا وهناك، فلا تلبث أن تستعيد قوتها وتستأنف القتال.
وقيل له: إن مدينة "الأبلة" (٣) تعد من أهم المصادر التي تمد جيوش الفرس المنهزمة بالمال والرجال.
فعزم على أن يرسل جيشا لفتح "الأبلة"، وقطع إمداداتها عن الفرس، لكنه اصطدم بقلة الرجال عنده.
ذلك لأن شبان المسلمين وكهولهم وشيوخهم قد خرجوا يضربون في فجاج (٤) الأرض غزاة في سبيل الله، حتى لم يبق لديه في المدينة إلا النزر (٥) القليل.
فعمد إلى طريقته التي عرف بها …
وهي التعويض عن قلة الجند بقوة القائد …
فنثر كنانة (٦) رجاله بين يديه وأخذ يعجم عيدانهم (٧) واحدا بعد آخر فما لبث أن هتف: وجدته … نعم وجدته …
ثم مضى إلى فراشه وهو يقول:
إنه مجاهد عرفته بدر، وأحد، والخندق وأخواتها …
وشهدت له "اليمامة" ومواقفها …
فما نبا (٨) له سيف، ولا أخطأت له رمية …
ثم إنه هاجر الهجرتين (٩)، وكان سابع سبعة أسلموا على ظهر الأرض …
ولما أصبح الصبح، قال: ادعوا لي عتبة بن غزوان.
وعقد له الراية على ثلاثمائة وبضعة (١٠) عشر رجلا …
ووعده بأن يمده تباعا بما يتوافر له من الرجال.
* * *
ولما عزم الجيش الصغير على الرحيل؛ وقف الفاروق يودع قائده عتبة ويوصيه فقال له: يا عتبة إني قد وجهتك إلى أرض "الأبلة"، وهي حصن من حصون الأعداء فأرجو الله أن يعينك عليها.
فإذا نزلت بها فادع قومها إلى الله، فمن أجابك فاقبل منه، ومن أبى فخذ منه الجزية (١١) عن صغار وذلة …
وإلا فضع في رقابهم السيف (١٢) في غير هوادة …
واتق الله يا عتبة فيما وليت عليه …
وإياك أن تنازعك (١٣) نفسك إلى كبر يفسد عليك آخرتك.
واعلم أنك صحبت رسول الله ﷺ، فأعزك الله به بعد الذلة، وقواك به بعد الضعف، حتى صرت أميرا مسلطا، وقائدا مطاعا، تقول فيسمع منك، وتأمر فيطاع أمرك … فيا لها من نعمة إذا هي لم تبطرك (١٤) وتخدعك وتهو بك إلى جهنم أعاذك الله وأعاذني منها.
* * *
مضى عتبة بن غزوان برجاله ومعه زوجته وخمس نسوة أخريات من زوجات الجند وأخواتهم، حتى نزلوا في أرض قصباء (١٥) لا تبعد كثيرا عن مدينة "الأبلة".
ولم يكن معهم شيء يأكلونه …
فلما اشتد عليهم الجوع قال عتبة لنفر منهم: التمسوا (١٦) لنا في هذه الأرض شيئا نأكله.
فقاموا يبحثون عما يسد جوعتهم، فكانت لهم مع الطعام قصة رواها أحدهم فقال:
بينما كنا نبحث عن شيء نأكله؛ دخلنا أجمة (١٧) فإذا فيها زنبيلان (١٨) في أحدهما تمر، وفي الآخر حب أبيض صغير مغطى بقشر أصفر، فجذبناهما حتى أدنيناهما من العسكر، فنظر أحدنا إلى الزنبيل الذي فيه الحب وقال:
هذا سم أعده لكم العدو، فلا تقربنه.
فملنا إلى التمر، وجعلنا نأكل منه …
وفيما نحن كذلك إذ بفرس قد قطع قياده (١٩)، وأقبل على زنبيل الحب وجعل يأكل منه، فوالله لقد هممنا بأن نذبحه قبل أن يموت لننتفع بلحمه.
فقام إلينا صاحبه وقال: دعوه، وسأحرسه الليلة فإن أحسست بموته ذبحته … فلما أصبحنا وجدنا الفرس معافى لا ضرر فيه.
فقالت أختي:
يا أخي، إني سمعت أبي يقول: إن السم لا يضر إذا وضع على النار وأنضج.
ثم أخذت شيئا من الحب ووضعته في القدر، وأوقدت تحته.
ثم ما لبثت أن قالت: تعالوا انظروا كيف احمر لونه، ثم جعل يتشقق عنه قشره، وتخرج منه حبوبه البيض.
فألقيناه في الجفنة (٢٠) لنأكله، فقال لنا عتبة:
اذكروا اسم الله عليه وكلوه … فأكلناه فإذا هو غاية في الطيب.
ثم عرفنا بعد ذلك أن اسمه الأرز.
* * *
كانت "الأبلة" التي اتجه إليها عتبة بن غزوان بجيشه الصغير مدينة حصينة قائمة على شاطئ "دجلة" (٢١) …
وكان الفرس قد اتخذوها مخازن لأسلحتهم.
وجعلوا من أبراج حصونها مراصد (٢٢) لمراقبة أعدائهم.
لكن ذلك لم يمنع عتبة من غزوها على الرغم من قلة رجاله وضآلة سلاحه … إذ لم يجتمع له من الرجال غير ستمائة مقاتل تصحبهم طائفة قليلة من النساء.
ولم يكن عنده من السلاح غير السيوف والرماح.
فكان لا بد له من أن يستعمل ذكاءه.
* * *
أعد عتبة للنسوة رايات رفعها على أعواد الرماح …
وأمرهن أن يمشين بها خلف الجيش، وقال لهن:
إذا نحن اقتربنا من المدينة فأثرن التراب وراءنا حتى تملأن به الجو.
فلما دنوا من "الأبلة" خرج إليهم جند الفرس، فرأوا إقدامهم عليهم.
ونظروا إلى الرايات التي تخفق وراءهم.
ووجدوا الغبار يملأ الجو خلفهم.
فقال بعضهم لبعض: إنهم طليعة (٢٣) العسكر، وإن وراءهم جيشا: جرارا (٢٤) يثير الغبار، ونحن قلة …
ثم دب في قلوبهم الذعر، وسيطر عليهم الجزع، فطفقوا يحملون ما خف وزنه وغلا ثمنه، ويتسابقون إلى ركوب السفن الراسية في "دجلة" ويولون الأدبار (٢٥).
فدخل عتبة "الأبلة" دون أن يفقد أحدا من رجاله …
ثم فتح ما حولها من المدن والقرى.
وغنم من ذلك غنائم عزت على الحصر (٢٦)، وفاقت كل تقدير؛ حتى إن أحد رجاله عاد إلى المدينة، فسأله الناس:
كيف المسلمون في "الأبلة"؟
فقال: عم تتساءلون؟! …
والله لقد تركتهم وهم يكتالون الذهب والفضة اكتيالا … فأخذ الناس يشدون إلى "الأبلة" الرحال (٢٧).
* * *
عند ذلك رأى عتبة بن غزوان أن إقامة جنوده في المدن المفتوحة سوف تعودهم على لين العيش، وتخلقهم بأخلاق أهل تلك البلاد، وتفل (٢٨) من حدة عزائمهم على مواصلة القتال؛ فكتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في بناء "البصرة" (٢٩) ووصف له المكان الذي اختاره لها فأذن له.
* * *
اختط (٣٠) عتبة المدينة الجديدة …
وكان أول ما بناه مسجدها العظيم …
ولا عجب …
فمن أجل المسجد خرج هو وأصحابه غزاة في سبيل الله …
وبالمسجد انتصر هو وأصحابه على أعداء الله …
ثم تسابق الجند على اقتطاع (٣١) الأرض وبناء البيوت …
لكن عتبة لم يبن لنفسه بيتا، وإنما ظل يسكن خيمة من الأكسية (٣٢) … ذلك لأنه كان قد أسر في نفسه أمرا …
* * *
فلقد رأى عتبة أن الدنيا أقبلت على المسلمين في "البصرة" إقبالا يذهل المرء عن نفسه …
وأن رجاله الذين كانوا منذ قليل لا يعرفون طعاما أطيب من الأرز المسلوق بقشره قد تذوقوا مآكل الفرس من الفالوذج (٣٣) واللوزينج (٣٤) وغيرهما واستطابوها.
فخشي على دينه من دنياه …
وأشفق على الآجلة من العاجلة (٣٥) …
فجمع الناس في مسجد "الكوفة" وخطبهم فقال:
أيها الناس؛ إن الدنيا قد آذنت (٣٦) بالانقضاء، وأنتم منتقلون عنها إلى دار لا زوال فيها، فانتقلوا إليها بخير أعمالكم …
ولقد رأيتني سابع سبعة (٣٧) مع رسول الله ﷺ، وما لنا طعام غير ورق الشجر حتى قرحت منه أشداقنا (٣٨) …
ولقد التقطت (٣٩) بردة - ذات يوم - فشققتها بيني وبين سعد بن أبي وقاص (٤٠) فاتزرت (٤١) بنصفها، واتزر سعد بنصفها الآخر.
فإذا نحن اليوم لم يبق منا واحد إلا وهو أمير على مصر من الأمصار …
وإني أعوذ بالله أن أكون عظيما عند نفسي صغيرا عند الله …
ثم استخلف عليهم رجلا منهم، وودعهم ومضى إلى المدينة.
فلما قدم على الفاروق استعفاه (٤٢) من الولاية فلم يعفه، فألح عليه فأصر عليه الخليفة، وأمره بالعودة إلى "البصرة" … فأذعن (٤٣) لأمر عمر كارها، وركب ناقته وهو يقول:
اللهم لا تردني إليها … اللهم لا تردني إليها …
فاستجاب الله دعاءه إذ لم يبعد عن المدينة كثيرا حتى عثرت ناقته، فخر عنها صريعا … وفارق الحياة (*) …
_________
(١) العس: الطواف بالليل للحراسة.
(٢) يجهزوا عليها: يقضوا عليها.
(٣) الأبلة: مدينة في جوار البصرة ألحقت بها وغدت جزءا منها.
(٤) يضربون في فجاج الأرض: يمشون في سبل الأرض غزاة في سبيل الله.
(٥) النزر: القليل الضئيل.
(٦) الكنانة: جعبة السهام.
(٧) يعجم عيدانهم: يختبر عيدانهم [شبههم بالسهام].
(٨) نبا السيف: لم يصب.
(٩) الهجرتان: الهجرة إلى بلاد الحبشة والهجرة إلى المدينة.
(١٠) بضعة عشر: البضع من الثلاثة إلى التسعة.
(١١) الجزية: ما يأخذه الحاكم المسلم من الذمي من المال.
(١٢) ضع السيف في رقابهم: حاربهم واقتلهم.
(١٣) تنازعك نفسك: تدعوك نفسك.
(١٤) تبطرك: البطر سوء التصرف بالنعمة.
(١٥) قصباء: ذات قصب، والقصب: نبات مائي مجوف.
(١٦) التمسوا: ابحثوا واطلبوا.
(١٧) الأجمة: الشجر الكثير الملتف.
(١٨) الزنبيل: القفة.
(١٩) قطع قياده: قطع رسنه.
(٢٠) الجفنة: القصعة الكبيرة.
(٢١) دجلة: نهر ينبع من تركيا ثم يجري في العراق، ويصب في شط العرب.
(٢٢) مراصد: جمع مرصد، وهو مكان رصد العدو ومراقبته.
(٢٣) طليعة العسكر: مقدمة العسكر.
(٢٤) الجيش الجرار: الجيش الكثيف الكثير العدد والعدد.
(٢٥) يولون الأدبار: ينهزمون.
(٢٦) عزت على الحصر: تعذر إحصاؤها.
(٢٧) يشدون الرحال إلى الأبلة: يسافرون إليها.
(٢٨) تفل من حدة عزائمهم: تضعف من قوة عزائمهم.
(٢٩) البصرة: مدينة في العراق على شط العرب.
(٣٠) اختط عتبة المدينة: خططها.
(٣١) اقتطاع الأرض: أخذها وامتلاكها.
(٣٢) الأكسية: جمع كساء وهو الثوب.
(٣٣) الفالوذج: صنف الحلوى يصنع من الدقيق والسمن والعسل.
(٣٤) اللوزينج: صنف من الحلوى يشبه القطايف يحشى باللوز.
(٣٥) الآجلة: هي الآخرة، والعاجلة: الدنيا.
(٣٦) آذنت بالانقضاء: أعلنت عن أنها توشك أن تنتهي.
(٣٧) رأيتني سابع سبعة: رأيت نفسي بين المسلمين ولم يكن قد أسلم أحد غيرنا.
(٣٨) قرحت منه أشداقنا: تقرحت منه شفاهنا.
(٣٩) التقطت بردة: أخذتها من الأرض.
(٤٠) سعد بن أبي وقاص: انظره ص ٢٨١.
(٤١) اتزرت بنصفها: جعلت نصفها إزارا لي.
(٤٢) استعفاه من الولاية: طلب منه أن يعفيه منها ويعزله عنها.
(٤٣) أذعن لأمر عمر: خضع له واستجاب.
مختارات