23. صهيب الرومي
صهيب الرومي
"ربح البيع يا أبا يحيى … ربح البيع … "
[محمد رسول الله]
صهيب الرومي …
ومن منا - معشر المسلمين - لا يعرف صهيبا الرومي، ولا يلم بطرف من أخباره ونتف من سيرته؟!.
ولكن الذي لا يعرفه الكثير منا هو أن صهيبا لم يكن روميا، وإنما كان عربيا خالصا، نميري (١) الأب تميمي (٢) الأم.
ولانتساب صهيب إلى "الروم" قصة ما تزال تعيها ذاكرة التاريخ، وترويها أسفاره.
فقبل البعثة بحوالي عقدين من الزمان كان يتولى "الأبلة" (٣) سنان بن مالك النميري، من قبل "كسرى" ملك الفرس …
وكان أحب أولاده إليه طفل لم يجاوز الخامسة من عمره، دعاه صهيبا.
* * *
كان صهيب أزهر الوجه، أحمر الشعر، متدفق النشاط ذا عينين تتقدان فطنة ونجابة …
وكان إلى ذلك ممراحا، عذب الروح، يدخل السرور على قلب أبيه، وينتزع منه هموم الملك انتزاعا.
* * *
مضت أم صهيب مع ابنها الصغير وطائفة من حشمها وخدمها إلى قرية "الثني" من أرض "العراق" طلبا للراحة والاستجمام، فأغارت على القرية سرية من سرايا جيش "الروم"، فقتلت حراسها، ونهبت أموالها، وأسرت ذراريها …
فكان في جملة من أسرتهم صهيب.
* * *
بيع صهيب في أسواق الرقيق ببلاد "الروم"، وجعلت تتداوله الأيدي فينتقل من خدمة سيد إلى خدمة آخر، شأنه في ذلك كشأن الآلاف المؤلفة من الأرقاء الذين كانوا يملأون قصور بلاد "الروم".
* * *
وقد أتاح ذلك لصهيب أن ينفذ إلى أعماق المجتمع الرومي، وأن يقف عليه من داخله، فرأى بعينيه ما يعشش في قصوره من الرذائل والموبقات (٤)، وسمع بأذنيه ما يرتكب فيها من المظالم والمآثم.
فكره ذلك المجتمع وازدراه (٥).
وكان يقول في نفسه: إن مجتمعا كهذا لا يطهره إلا الطوفان.
* * *
وعلى الرغم من أن صهيبا قد نشأ في بلاد "الروم"، وشب على أرضها وبين أهليها.
وعلى الرغم من أنه نسي العربية أو كاد ينساها؛ فإنه لم يغب عن باله قط أنه عربي من أبناء الصحراء.
ولم تفتر أشواقه لحظة إلى اليوم الذي يتحرر فيه من عبوديته، ويلحق يبني قومه.
وقد زاده حنينا إلى بلاد العرب فوق حنينه، أنه سمع كاهنا (٦) من كهنة النصارى يقول لسيد من أسياده:
لقد أطل (٧) زمان يخرج فيه من مكة في جزيرة العرب نبي يصدق رسالة عيسى بن مريم، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور.
* * *
ثم أتيحت الفرصة لصهيب فولى هاربا من رق أسياده، ويمم (٨) وجهه شطر مكة أم القرى وموئل العرب، ومبعث النبي المرتقب.
ولما ألقى عصاه (٩) فيها أطلق الناس عليه اسم صهيب الرومي للكنة (١٠) لسانه وحمرة شعره.
* * *
وقد حالف صهيب سيدا من سادات مكة هو عبد الله بن جدعان، وطفق يعمل في التجارة، فدرت عليه الخير الوفير والمال الكثير.
غير أن صهيبا لم تنسه تجارته ومكاسبه حديث الكاهن النصراني، فكان كلما مر كلامه بخاطره يسائل نفسه في لهفة:
متى يكون ذلك؟!.
وما هو إلا قليل حتى جاءه الجواب.
* * *
ففي ذات يوم عاد صهيب إلى مكة من إحدى رحلاته، فقيل له إن محمد بن عبد الله قد بعث، وقام يدعو الناس إلى الإيمان بالله وحده، ويحضهم على العدل والإحسان، وينهاهم عن الفحشاء والمنكر.
فقال: أليس هو الذي يلقبونه بالأمين؟!.
فقيل له: بلى.
فقال: وأين مكانه؟
فقيل له: في دار الأرقم بن أبي الأرقم (١١) عند الصفا …
ولكن حذار من أن يراك أحد من قريش؛ فإن رأوك فعلوا بك … وفعلوا، وأنت رجل غريب لا عصبية لك تحميك، ولا عشيرة عندك تنصرك.
* * *
مضى صهيب إلى دار الأرقم حذرا يتلفت، فلما بلغها وجد عند الباب عمار بن ياسر (١٢)، وكان يعرفه من قبل، فتردد لحظة ثم دنا منه وقال:
ما تريد يا عمار؟.
فقال عمار: بل ما تريد أنت؟.
فقال صهيب: أردت أن أدخل على هذا الرجل، فأسمع منه ما يقول.
فقال عمار: وأنا أريد ذلك أيضا.
فقال صهيب: إذن ندخل معا على بركة الله.
* * *
دخل صهيب بن سنان الرومي، وعمار بن ياسر على رسول الله ﷺ واستمعا إلى ما يقول، فأشرق نور الإيمان في صدريهما، وتسابقا في مد أيديهما إليه، وشهدا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأمضيا سحابة (١٣) يومهما عنده ينهلان من هديه وينعمان بصحبته.
ولما أقبل الليل، وهدأت الحركة، خرجا من عنده تحت جنح الظلام، وقد حمل كل منهما من النور في صدره ما يكفي لإضاءة الدنيا بأسرها.
* * *
تحمل صهيب نصيبه من أذى قريش مع بلال (١٤) وعمار وسمية وخباب وغيرهم من عشرات المؤمنين، وقاسى من نكال قريش ما لو نزل بجبل لهده، فتلقى ذلك كله بنفس مطمئنة صابرة، لأنه كان يعلم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره.
* * *
ولما أذن الرسول ﷺ لأصحابه بالهجرة إلى المدينة، عزم صهيب على أن يمضي في صحبة الرسول ﷺ وأبي بكر؛ لكن قريشا شعرت بعزمه على الهجرة فصدته (١٥) عن غايته، وأقامت عليه الرقباء حتى لا يفلت من أيديهم، ويحمل معه ما درته عليه التجارة من فضة وذهب.
* * *
ظل صهيب بعد هجرة الرسول ﷺ وصاحبه يتحين (١٦) الفرص للحاق بهما فلم يفلح؛ إذ كانت أعين الرقباء ساهرة عليه متيقظة له؛ فلم يجد سبيلا غير النجوء إلى الحيلة.
ففي ذات ليلة باردة أكثر صهيب من الخروج إلى الخلاء كأنه يقضي الحاجة، فكان لا يرجع من قضاء حاجته حتى يعود إليها.
فقال بعض رقبائه لبعض: طيبوا نفسا فإن اللات والعزى شغلاه ببطنه …
ثم أووا إلى مضاجعهم، وأسلموا عيونهم إلى الكرى (١٧).
فتسلل صهيب من بينهم، ويمم وجهه شطر المدينة.
* * *
لم يمض غير قليل على رحيل صهيب حتى فطن له رقباؤه، فهبوا من نومهم مذعورين، وامتطوا خيولهم السوابق، وأطلقوا أعنتها (١٨) خلفه حتى أدركوه.
فلما أحس بهم، وقف على مكان عال وأخرج سهامه من كنانته (١٩) ووتر (٢٠) قوسه وقال:
يا معشر قريش، لقد علمتم - والله - أني من أرمى الناس وأحكمهم إصابة …
ووالله لا تصلون إلي حتى أقتل بكل سهم معي رجلا منكم.
ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي شيء منه.
فقال قائل منهم: والله لا ندعك تفوز منا بنفسك وبمالك …
لقد أتيت مكة صعلوكا (٢١) فقيرا فاغتنيت وبلغت ما بلغت.
فقال صهيب: أرأيتم إن تركت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟.
قالوا: نعم.
فدلهم على موضع ماله في بيته في مكة، فمضوا إليه وأخذوه منه، ثم أطلقوا سراحه.
* * *
أخذ صهيب يغذ السير نحو المدينة فارا بدينه إلى الله؛ غير آسف على المال الذي أنفق في جنبه زهرة العمر.
وكان كلما أدركه الونى (٢٢) وأصابه التعب، استفزه الشوق إلى رسول الله ﷺ فيعود إليه نشاطه، ويواصل سيره.
فلما بلغ "قباء" (٢٣) رآه الرسول صلوات الله وسلامه عليه مقبلا، فهش له وبش وقال:
(ربح البيع يا أبا يحيى …
ربح البيع) … وكررها ثلاثا.
فعلت الفرحة وجه صهيب وقال:
والله ما سبقني إليك أحد يا رسول الله.
وما أخبرك به إلا جبريل.
* * *
حقا لقد ربح البيع.
وصدق ذلك وحي السماء …
وشهد عليه جبريل … حيث نزل في صهيب قول الله جل وعز:
﴿ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد﴾ (٢٤).
فطوبى لصهيب بن سنان الرومي، وحسن مآب (*).
_________
(١) نميري الأب: أي إن أباه من بني نمير.
(٢) تميمي الأم: أي إن أمه من بني تميم.
(٣) الأبلة: مدينة قديمة وخلت في البصرة وأصبحت جزءا منها.
(٤) الموبقات: الفواحش.
(٥) ازدراه: احتقره.
(٦) الكاهن: رجل الدين عند النصارى.
(٧) أطل: اقترب.
(٨) يمم وجهه شطر مكة: توجه نحو مكة.
(٩) ألقى عصاه فيها: نزل فيها واستقر.
(١٠) للكنة لسانه: لثقل لسانه.
(١١) هو ابن عبد مناف أسد المخزومي: من السابقين إلى الإسلام، وكانت داره "دار السلام" مقرا لدعوة الرسول ﷺ، واستعمله على الصدقات.
(١٢) عمار بن ياسر: انظر آل ياسر ص ٥٠١.
(١٣) سحابة يومهما: طول يومهما.
(١٤) بلال بن رباح: انظره ص ٣٠٣.
(١٥) صدته: منعته.
(١٦) يتحين الفرص: يترقب الفرص.
(١٧) الكرى: النوم.
(١٨) العنان: الرسن، وجمعه أعنة.
(١٩) الكنانة: الجعبة التي توضع فيها السهام.
(٢٠) وتر قوسه: شد وتره استعدادا للرمي.
(٢١) الصعلوك: الضعيف الفقير.
(٢٢) الونى: التعب.
(٢٣) قباء: قرية على بعد ميلين من المدينة.
(٢٤) سورة البقرة: آية ٢٠٧.
مختارات