فقه حقيقة العبودية (١٩)
والعبودية لها ثلاث درجات:
الأولى: أن يعبد الله طمعاً في الثواب، أو هرباً من العقاب.
وهذه أدنى الدرجات؛ لأن معبوده ذلك الثواب، وقد جعل الحق وسيلة إليه.
الثانية: أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته، أو يتشرف بقبول تكاليفه، أو الانتساب إليه، وهذه أعلى من الأولى.الثالثة: أن يعبد الله لكونه إلهاً وخالقاً، ولكونه عبداً له، والإلهية توجب الهيبة والعزة، والعبودية توجب الخضوع والذلة، وهذه أعلى المقامات، وأشرف الدرجات للعبد.
ومنازل العبودية متفاوتة، والناس فيها متفاوتون:
فالمهابة والتعظيم أعلى من المحبة؛ لأنها نشأت عن معرفة جلال الرب وتعلقت بالذات والصفات، ثم يليها المحبة الناشئة عن معرفة إنعام الرب وإحسانه، ثم التوكل؛ لأن منشأه ملاحظة التوحد بالأفعال، ثم الخوف والرجاء؛ لأنهما نشآ عن ملاحظة الخير والشر، والإحسان والانتقام وشرفا من جهة معرفة قدرة الله عليهما، إذ لا يرجى من يعجز عن الخير، ولا يخاف من لا يقدر على الضير.. وهكذا باقي الصفات.
وعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإمانة، يثمر له عبودية التوكل عليه وحده.
وعلم العبد بسمع الله وبصره وعلمه، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه، وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله، وتعلقها بما يحبه الله ويرضاه.
فيثمر له ذلك الحياء، يثمر له الحياء الإقبال على الطاعات، واجتناب المحرمات والقبائح.
ومعرفته بغناه وجوده سبحانه، وكرمه وإحسانه، وبره ورحمته، يوجب له ذلك كله سعة الرجاء، وطلب الحاجات كلها منه ومحبته.
ومعرفته بجلال الله وعظمته وعزته تثمر له الخضوع والاستعانة والإجلال لربه.
وعلمه بكماله وجلاله وجماله يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية.
والعبادة عاطفة قد مزجت بدم الإنسان بحكم الفطرة، فكما أن الإنسان يمسه الجوع فيلتمس لإزالته الغذاء.. وكما أنه يشعر بالحر والبرد فيلتمس لاتقائهما الظل واللباس.. وكما يجول في فكره شيء فيبحث عن الألفاظ والإشارات للتعبير عنه.
فهكذا عاطفة العبادة تنشأة في الإنسان من جهة الفطرة فيلتمس لتهدئتها وإبرازها إلهاً ثم يعبده: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)} [الأنعام: ١٠٢].
والعبودية: أن يقر الإنسان بالكبرياء والعظمة والجبروت في قوة أعلى ثم يطيعها ويسلس لها قياده، ويطأطئ لها رأسه، مع كمال التعظيم، وكمال الحب وكمال الذل، وذلك لا يكون إلا لله وحده لا شريك له.
وكل شيء في هذا الكون من أصغر ذرة في الأرض إلى أكبر جسم في الكون، كله مسخر بنظام مهيمن لا قبل له بمخالفته، ولو خالفه وأبى الانقياد له فسد وفني، ولكن أنى له المخالفة، فكلٌ عابد مطيع يؤدي الوظيفة التي فوضت إليه، فلا تهب الرياح، ولا ينزل المطر، ولا يسيل الماء، ولا تنبت الأرض، ولا تجري الشمس، ولا تتحرك الكواكب، إلا بأمر الله وإذنه سبحانه.
فهذا الكون وما فيه كله يعبد الله تعالى ويطيعه، وهذه العبادة والطاعة هي قوام بقائه، ومناط حياته، وما من شيء في الكون يصدف عن عبادة الله طاعته ولو للمح البصر، وإذا صدف لا يتأخر فناؤه ولا لطرفة عين: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (١٥)} [الرعد: ١٥].
فالقنوت لله يغشى كل شيء في الكون، ومكافأة هذه المخلوقات على حسن العبادة والطاعة هي نعمة الوجود وقابلية البقاء والحياة والرزق، فكل شيء يعبد الله ينعم بالحياة، ويمكث في الكون، وينال وسيلة البقاء وهي الرزق والإمداد.
والله عزَّ وجلَّ يشمل بنعمة الوجود والرزق والحراسة الذين ينكرونه ويشركون به، ويأبون أن يعبدوه ويطيعوه، كما يفيض بها على الذين يؤمنون به، ويوحدونه
ويعبدونه، ولا يشركون به شيئاً.
فالأجر الذي يناله الإنسان على عبوديته الإجبارية منقطع محدود في الحياة الدنيا ينعم به كغيره إلى أجل مسمى، وأما الأجر الذي يناله الإنسان مكافأة على عبوديته الاختيارية فهو نعمة دائمة كاملة لا خلل فيها ولا نقصان، ورزق لا خوف من انقطاعه.
فلا بدَّ للإنسان أن يعرف ربه ومولاه معرفة خالصة لا يشوبها شرك أو كفر أو شك، ولا يخاف معها أحداً غيره، ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه فهذا هو الإيمان.
وأن يطيع ربه فيما يختص بحياته الاختيارية بامتثال أوامر هذا المعبود كما يطيع حكمه وأمره فيما يختص بحياته الإجبارية، حتى تصير حياته بناحيتيها تابعة لإله واحد وحاكم واحد، وهذا هو العمل الصالح.
وليست العبادة فقط هي الصلاة والصيام، والحج والزكاة، والذكر والتسبيح والتهليل، بل هذه جزء من العبادة الشاملة، وهي تمرينات تزكي روح الإنسان، وتعده للعبادة الرئيسية التي تسمو بحياته من أدنى درجات الحياة الحيوانية إلى أعلى وأرفع ما يكون من درجات الحياة الإنسانية، وتعده لامتثال أوامر الله في كل حال، وتجعله في كلا حالتيه الإجبارية والاختيارية خادماً مطيعاً وفياً لربه ومولاه في كل لحظة من لحظات حياته، بكل قدراته الجسدية والروحية.
والإنسان بهذا ينال الشرف الذي لا قِبَل لمخلوق في الكون أن ينازعه فيه، فيكون خليفة الله في الأرض، ويحكم أرض الله بأمره الكريم كما قال سبحانه: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (٢٦)} [ص: ٢٦].
وللجسد لذة، وللسان لذة، وللسمع لذة، وكل ملذوذ إنما له لذة واحدة إلا العبادة فلها ثلاث لذات:
إذا كنت فيها.. وإذا تذكرتها.. وإذا أُعطيت ثوابها.
مختارات