فقه حقيقة العبودية (١٨)
وإذا جاء الإيمان في القلب جاء أمران:
الطاعة والعبودية.. والرغبة في هداية الناس.
والدافع والمحرك لهما الإيمان، والعلم نورهما اللذان يسيران به.
وكل واحد من البشر بين أمرين:
الأول: أمر يفعله الله به: كالهداية التي أكرمه الله بها، والنعم التي تنزل عليه كل يوم من ربه، فذلك يحتاج إلى الشكر ليزيد ويبقى.
الثاني: أمر يفعله هو: إما خير وإما شر، فالخير يفتقر إلى معونة الله له، فيحتاج إلى الاستعانة، والشر يفتقر إلى الاستغفار ليمحو أثره.
والأعمال التي تصدر من العباد متفاوتة، ومجرد كون الفعل محبوباً إلى الله لا يكفي في كونه قربة إلى الله، وإنما يكون قربة إذا لم يستلزم أمراً مبغوضاً مكروهاً لله، أو تفويت أمر هو أحب إلى الله من ذلك الفعل، وأما إذا استلزم ذلك فلا يكون قربة.
فمثلاً: إعطاء غير المؤلفة قلوبهم من فقراء المسلمين وإن كان محبوباً إلى الله فإنه لا يكون قربة إذا تضمن فوات ما هو أحب إليه من إعطاء من يحصل بعطيته قوة في الإسلام وأهله، وإن كان غنياً غير مستحق.
والتفرغ لنوافل العبادات إنما يكون قربة إذا لم يستلزم تعطيل الجهاد باللسان والسنان الذي هو أحب إلى الله من تلك النوافل، وحينئذ لا يكون قربة في هذه الحال وإن كان قربة في غيرها.
وكذلك الصلاة وقت النهي إنما لم تكن قربة لاستلزامها ما يبغضه الله ويكرهه من التشبه بأعداء الله الكفار الذين يسجدون للشمس في ذلك الوقت وهكذا.
فالشريعة مبنية على تحصيل خير الخيرين، وتفويت أدناهما، وتفويت شر الشرين باحتمال أدناهما، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين.
والنية سر العبودية وروحها، ومحلها من العمل محل الروح من الجسد، فالنية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد.
فكما أن الجسد إذا فارقه الروح فموات، فكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث.
ومعرفة أحكام القلوب، وأحكام الجوارح، كلاهما مطلوب، إلا أن معرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح، إذ هي أصلها، وأحكام الجوارح متفرعة عليها.
ولله على العبد عبوديتان في كل عمل:
عبودية باطنة.. وعبودية ظاهرة.
فله على قلبه عبودية.. وله على لسانه وجوارحه عبودية.
والناس في العبودية على أربعة أقسام:
الأول: من قام بعبودية القلب، وعطل عبودية الجوارح.
الثاني: من قام بعبودية الجوارح، وعطل عبودية القلب.
فهؤلاء لا التفات لهم إلى عبودية قلوبهم، ففسدت عبودية جوارحهم، وأولئك لا التفات لهم إلى عبودية جوارحهم، ففسدت عبودية قلوبهم.
الثالث: من قام بعبودية القلب، وعبودية الجوارح.
وهؤلاء هم العارفون بالله، وبأمر الله، فأقاموا الملك وجنوده في خدمة المعبود سبحانه.
وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأدوم، فهي واجبة في كل وقت حتى الممات.
الرابع: من لم يقم بعبودية القلب ولا عبودية الجوارح، وهؤلاء شر الناس وأجهل الناس، وأخسر الناس.
والعبادة أعظم مقامات العبد، فهي مقام عالٍ شريف، بها يزول ضيق القلب، ويكمل انشراح الصدر؛ لأنها توجب الرجوع من الخلق إلى الحق.
وزوال ضيق الصدر يتم بأربعة أشياء أمر الله بها رسوله في كتابه كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)} [الحجر: ٩٧ - ٩٩].
مختارات