فقه حقيقة العبودية (١٧)
وبذكر الله سبحانه تطمئن قلوب المؤمنين، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ورضوانه عليهم.
ولا شيء يعطيهم في الدنيا أحب إليهم من الإيمان به ومحبتهم له.
وحاجتهم إليه في عبادتهم له وتألههم له كحاجتهم إليه بل أعظم في خلقه وربوبيته لهم ورزقه لهم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة التي بها سعادتهم وفوزهم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)} [الأحزاب: ٧١].
وحق الله عزَّ وجلَّ على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقهم عليه إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم، وأن يكرمهم إذا قدموا عليه.
وهذا كما أنه غاية محبوب العبد ومطلوبه، وبه سروره ولذته ونعيمه، فهو أيضاً محبوب الرب من عبده، ومطلوبه الذي يرضى به، ويفرح بتوبة عبده إذا رجع إليه وإلى عبوديته وطاعته.
وكذلك العبد لا فرح له أعظم من فرحه بوجود ربه وأنسه به وطاعته له، وليس في الكون ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه.
ومن عبد غيره وأحبه ففساده ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم.
بل قوام السماوات والأرض والخليقة بأن تؤله الإله الحق، ولو تألهت غيره لفسدت كل الفساد؛ لانتفاء ما به صلاحها، إذ صلاحها بتأله الإله الحق، فهي فقيرة إلى الله وحده في وجودها وبقائها فـ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢)} [الأنبياء: ٢٢].
وحاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الخضوع له، أعظم من حاجة الجسد إلى الروح. بل أعظم وأكبر، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه وإكرامه لها.
وكل ما يحصل للإنسان من اللذات والسرور بغير الله فلا يدوم له، بل ذلك في الحقيقة غير منعم ولا ملذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به وقربه منه، ووجوده عنده.
فإن القلب يتألم ويتعذب بمحبة ما سوى الله، وهذا كله مبني على أصلين عظيمين:
الأصل الأول: أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإخلاص العمل له وإفراده بالتوكل عليه هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه، لا كما يقوله من يقول إن عبادته تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذته، بل لمجرد الامتحان والابتلاء، أو لأجل التعويض بالأجر، أو لأجل تهذيب النفس.
بل الأمر أعظم وأجل من ذلك كله، بل أوامر المحبوب قرة العيون، وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، وبها كمال النعيم.
فقرة عين المحب في الصلاة والذكر والصيام وتلاوة القرآن أيما سرور ونعيم، وأما الصدقة فعجب من العجب.
وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، والصبر على أذى أعداء الله سبحانه، فاللذة بذلك أمر آخر، لا يناله الوصف، ولا يدركه من ليس له نصيب منه.
وكل من كان به أقوم كان نصيبه من اللذة والسرور به أعظم:
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)} [الجمعة: ٤].
الأصل الثاني: أن كمال النعيم في الدار الآخرة به سبحانه: برؤيته، ورضوانه، وسماع كلامه، وقربه.
فالنعيم واللذة في الآخرة بالمخلوق من مأكول ومشروب، وملبوس ومنكوح ومسكون.
لكن اللذة الكبرى والنعيم التام في رؤية الخالق جل جلاله، وسماع كلامه، وحصول رضوانه في الجنة.
كما أن عذاب الحجاب في النار من أعظم أنواع العذاب الذي يعذب به الله أعداءه، ثم عذاب النار.
ولا بدَّ للإنسان بعد الإيمان من العمل، والعمل لا يكون إلا بعلم، وإلا فهو مردود.
وصحة العبادة تكون بعلمين:
علم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وعلم بأوامر الله، والعلم بأوامر الله نوعان:
علم الفضائل.. وعلم المسائل.
وعلم الفضائل مقدم على علم المسائل؛ لأنه يهيئ الإنسان لقبول المسائل كما تهيئ التربة لقبول البذر، فالبذر هو المسائل، والتهيئة هو علم الفضائل الذي يحرك مع الإيمان الجوارح للطاعات، ويقيدها عن المعاصي والمحرمات، ويدفعها للمنافسة في الخيرات، والإكثار من الطاعات.
والله عزَّ وجلَّ لم ينزل الأحكام إلا بعد أن أنشأ الاستعداد للقيام بها في القلوب، فلما جاء الإيمان، جاءت الأعمال محبوبة خفيفة على النفوس، ففي مكة فترة الدعوة والجهد لتحصيل الإيمان، ومعرفة الفضائل، والترغيب في أحسن الأخلاق.
وفي المدينة فترة الأحكام والتشريعات والأوامر والسنن.
والأوامر تنزل من ذات الله سبحانه، والأعمال تخرج من ذوات العباد فإذا تطابقت أفعال العباد مع أوامر الله جاء الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، وإذا اختلفت جاء الهلاك في الدنيا والآخرة.
مختارات