فقه حقيقة العبودية (١٠)
والأمم السابقة واللاحقة كلهم فطرهم الله على التوحيد: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٠)} [الروم: ٣٠].
فلم يكونوا يجحدون أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وخلقهم كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩)} [الزخرف: ٩].
ولكنهم ما كانوا يتبعون هذا الاعتراف بألوهية الله، بما ينبغي أن يتبع من عبادة الله وحده، والدينونة لله وحده بلا شريك، واتباع أمره وحده بلا منازع، وهو ما يدعوهم إليه كل نبي بقوله: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤)} [هود: ٨٤].
وما تستقيم عقيدة الله في القلب، ثم تترك شريعة الله المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين الأرض.
فلا يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد أبداً.
والشرك بالله ألوان، منه هذا اللون الذي يعيشه كثير من الناس اليوم، وهو يمثل أصل الشرك الذي يلتقي عليه المشركون في كل زمان ومكان.
إن العبادة من مقتضيات العقيدة، ومن صور العبودية والدينونة لله، وإن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله ونبذ ما يعبد من دونه، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شريعة الله في كل شأن من شئون الحياة.
والتعامل.
والتجارة.
وتداول الأموال وغيرها.
فلا بدَّ من طاعة الله في كل ذلك وتنفيذ أمره كما قال شعيب - صلى الله عليه وسلم - لقومه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥)} [هود: ٨٤، ٨٥].
والشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته الشرك الذي يزاوله كثير من الناس اليوم وقبل اليوم، فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر التعبدية والشرائع والتعامل.
وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)} [البقرة: ٨٥].
لقد انحسر مفهوم الدين.
ومفهوم التوحيد.
ومفهوم العبادة.
عند كثير من المسلمين.
بسبب جهلهم وغفلتهم.
وزحزحة شياطين الإنس والجن لأوامر الله من حياتهم.
فهم يستنكرون لهذا وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، ووجود صلة بين التوحيد والمعاملات، فيتساءلون في استنكار:
ما للإسلام والسلوك الشخصي؟.
ما للإسلام وحرية اللباس؟.
ما دخل الإسلام في لباس المرأة؟.
ما للإسلام والمعاملات الربوية؟.
وما للدين والمهارة في الغش والاحتيال؟.
إن جهالة هؤلاء أشد جهالة من جاهلية أهل مدين الذين أرسل الله لهم شعيباً، ليعبدوا الله وحده فتكون حياتهم لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن العبادة عن شرائع الحياة.
فكلها تابعة لأمر الله وشرعه وحكمه، وبتنفيذها تتحقق العبودية الكاملة لله وحده.
وجاهلية اليوم تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله، والسلوك الشخصي في الحياة، والمعاملات المادية في السوق، تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود كما قال قوم شعيب له متهكمين ساخرين به: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧)} [هود: ٨٧].
فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بلا تفكير، وأن يفصلوا بين العبادة والتعامل في السوق.
إن صلاح الحياة والمجتمع أن يعيش الإنسان آدمياً مؤمناً بربه، عابداً له، مطيعاً له في جميع أحواله.
وقد يخيل لبعض الناس أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي ويضيع بعض الفرص، وهذا ليس بصحيح، بل إنه يفوت الكسب الخبيث ويضيع الفرص القذرة النجسة، ويعوض عنهما كسباً طيباً ورزقاً حلالاً، ومجتمعاً متآخياً متعاوناً، لا حقد فيه ولا غدر ولا خصام.
إن العبادة هي الحكم من جانب الله، والعبودية والطاعة من جانب البشر في كل أمر، وهذا وحده هو الدين القيم كما قال سبحانه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٤٠)} [يوسف: ٤٠].
إن العبودية لله لا تستقيم إلا أن تكون الدينونة الإرادية لله في الحكم كالدينونة القهرية لله في القدر، فكلاهما من العقيدة اللازمة.
والله الواحد القهار في غنى عن العالمين، فهو سبحانه لا يريد منهم إلا التقوى والصلاح، والعمل وعمارة الأرض وفق منهجه، فيعد لهم هذا كله عبادة يؤجرون عليها.
وحتى الشعائر التي يفرضها عليهم إنما يريد بها إصلاح قلوبهم ومشاعرهم؛ لأصلاح حياتهم وواقعهم، ليسير الناس في جميع أمورهم وفق أمر الله عزَّ وجلَّ، وهذا هو مفهوم العبادة الشامل الكامل.
إنها الدينونة لله وحده في كل شيء.
والخضوع لله وحده.
واتباع أمره وحده.
سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية.
أو تعلق بتوجيه أخلاقي.
أو تعلق بشريعة في الحياة.
مختارات