فقه حقيقة العبودية (٩)
إن العبادة: هي الدينونة لله وحده في كل شأن من شئون الدنيا والآخرة، فإن (عبد) معناها: (دان وخضع وذل) سواء في الشعائر التعبدية، أو الشرائع التي تنظم حياة الناس.
ولما بهت مدلول الدين والعبادة في نفوس الناس صاروا يفهمون أن عبادة غير الله التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الكفر هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير الله، كتقديمها للأصنام والأوثان والقبور مثلاً، وأن الإنسان متى تجنب ذلك فقد بعد عن الشرك والجاهلية، وأصبح مسلماً لا يجوز تكفيره، وهذا وهم باطل، وتبديل وتغيير لمفهوم العبادة التي هي الدينونة الكاملة المطلقة لله في كل شأن، ورفض الدينونة لغير الله في كل شأن.
كما جاء ذلك صريحاً في كتاب الله في قوله سبحان: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)} [الأنعام: ١٦٢، ١٦٣].
والفعلة العظيمة التي استحقت بها الأمم السابقة الهلاك واللعنة في الدنيا والآخرة لم تكن فقط هي مجرد أداء الشعائر التعبدية لغير الله، فهذه صورة من صور الشرك الكثيرة التي جاء نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام ليخرجوا الناس منها إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
إنما كانت الفعلة النكراء التي استحق بها الكفار العذاب هي جحود آيات الله، وعصيان رسله، والكفر به، واتباع أمر الجبارين والطغاة من عبيده كما قال سبحانه عن عاد: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩)} [هود: ٥٩].
ومتى عصى أقوام أوامر الله المتمثلة في شرائعه المبلغة لهم من رسله، بأن لا يدينوا لغير الله، فدانوا للطواغيت، فقد جحدوا بآيات ربهم، وعصوا رسله، وخرجوا بذلك من الإسلام إلى الشرك.
وقد بين الله ذلك مفصلاً في سورة الأنعام عن مشركي قريش، وبين فيها أن إقامة الحياة على غير منهج الله، واتباع الطواغيت في التحليل والتحريم، واتباع شرع لم يأذن به الله، وعبادة الأصنام والتوجه إليها بالعبادة كله ضلال وشرك: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)} [الأنعام: ١٤٠].
فهذا كله من الشرك الذي حذر الله منه.
كما حكى الله سبحانه في سورة الأعراف وهود أحوال الأمم المكذبة للرسل، والتي أشركت مع الله غيره سواء في الشعائر التعبدية، أو الشرائع التي تنظم حياة الناس كما قال سبحانه: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٦٥)} [الأعراف: ٦٥].
وقال سبحانه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤)} [هود: ٨٤].
إن توحيد الربوبية.
وتوحيد الألوهية.
وتوحيد مصدر الشريعة.
وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة.
هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، حتى يكون الله وحده هو المعبود، وهو المطاع دون سواه، وهو الذي يستحق أن تبذل في سبيله الأنفس والأموال والأوقات والجهود؛ لأن الله في حاجة إلى ذلك، فالله سبحانه غني عن العالمين، وغناه وصف لازم لذاته.
ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم، ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة بالإنسان إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في صلاح الحياة البشرية في كل زمان وفي كل مكان، وهم أحوج إليه من الطعام والشراب.
وما ينال الأمم من العذاب والهلاك، والتدمير واللعنة إلا بسبب ترك التوحيد وترك عبادة الله عزَّ وجلَّ، ومزاولة الشرك في الحياة.
لقد هلكت عاد؛ لأنهم اتبعوا أمر كل جبار عنيد، هلكوا مشيعين باللعنة في الدنيا والآخرة: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)} [هود: ٦٠].
وثمود قوم صالح - صلى الله عليه وسلم - دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له فقال: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: ٦١].
فلم يؤمنوا، فابتلاهم الله بالناقة فقتلوها مستهزئين ساخرين، وعقروها غير مبالين كما قال سبحانه: {وَيَاقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (٦٤)} [هود: ٦٤].
فجاءهم عذاب الله فأهلكوا بالصيحة، ونجى الله صالحاً والمؤمنين معه: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦)} [هود: ٦٦].
إن القلب البشري حين ينحرف شعرة واحدة عن التوحيد لا يقف عند حد في ضلاله وشروده.
حتى إن الحق الواضح الفطري المنطقي ليبدو عنده عجيبة العجائب التي يعجز عن تصورها، بينما هو يستسيغ الانحراف الذي لا يستند إلى فطرة أو عقل أو حس.
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥)} [ص: ٥].
فأي حماقة وأي جهل وأي سفه وراء هذا القول؟
ونوح وهود وصالح دعوا أقوامهم إلى لا إله إلا الله، فقال ملؤهم لكل نبي: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٦٦)} [الاعراف: ٦٦].
مختارات