فقه حقيقة العبودية (٨)
فالعبودية لازمة لكل مخلوق في العالم العلوي وفي العالم السفلي: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (٩٣)} [مريم: ٩٣].
أما صلة العبد بالرب، ورحمة الرب للعبد، والقربى والود والمدد، فإن القرآن يسكبها في النفس سكباً، ويملأ بها قلب المؤمن، ويفيضها عليه، ويدعه يعيش في ظلالها الندية الحلوة: محباً لربه، شاكراً له، معظماً له، مسروراً بقربه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)} [البقرة: ١٨٦].
والله جل جلاله وحده هو الملك العزيز الجبار المتكبر، الخالق البارئ، العلي العظيم، القوي القدير.
وما يتطاول أحد إلى هذا المقام العظيم إلا ويرده الله إلى الخفض والهون، وإلى العذاب والهوان في الآخرة.
ويعلو الإنسان ما يعلو، ويعظم الإنسان ما يعظم، فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم، والافتقار إليه في جميع الأحوال والأوقات.
وإذا علم العبد أن ربه الملك القوي العزيز العليم، وإلهه العلي العظيم الكبير، ثاب إلى مقام العبودية، واقفاً بين يدي ربه، ساجداً له، معظماً له، شاكراً له، محباً له، خاشعاً منكسراً بين يديه لما يراه من عظمته وجلاله وجماله وإحسانه، وتطامن كبرياؤه وطغيانه، ورده ذلك إلى مخافة الله ومهابته، وإلى الشعور بجلاله وعظمته، وإلى الأدب في حقه، والتحرج من الاستكبار عن عبادته وطاعته.
فما أعظم مقام العبودية، وما أسعد أهلها، وما أوفر وأجزل ثوابهم في الدنيا والآخرة، وذلك لا ينال إلا بالإيمان والتقوى كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)} [السجدة: ١٥ - ١٧].
ولا قيمة لعمل ولا جزاء على بذل إلا أن يرتبط بمنهج الإيمان، وإلا أن يكون باعثه الإيمان كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٣٩)} [النور: ٣٩].
وما كان الخلاف على مدار الزمن بين الجاهلية والإسلام، ولا كانت المعركة بين الحق والباطل على ربوبية الله سبحانه للكون، وتصريف أموره، وتدبير أحواله كما قال سبحانه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣١) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢)} [يونس: ٣١، ٣٢].
إنما كان الخلاف وكانت المعركة على من يكون هو رب الناس؟ ومن يكون ملك الناس؟ ومن يكون إله الناس؟.
لقد كان الطواغيت المجرمون في الأرض يغتصبون هذه الحقوق، ويزاولونها في حياة الناس، ويذلونهم بهذا الاغتصاب والاعتداء على حق الله، ويجعلونهم عبيداً لهم من دون الله.
وكانت الرسل تجاهد دائماً لانتزاع هذا السلطان المغتصب من أيدي الطواغيت، ورده إلى صاحبه ومالكه الشرعي وهو الله سبحانه الذي له الخلق والأمر في الكون كله.
مختارات