الملك المالك المليك
ذكر اسم الملك في القرآن خمس مرات: (فتعالى الله الملك الحق)المؤمنون 116 ونفس المقطع من طه 114
و(هو الله الذي لا إله إلا هو الملك)الحشر23
و(يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم)الجمعة 1
و(ملك الناس) الناس 2
وذكر اسم مالك مرتين:
(مالك يوم الدين) الفاتحة4
و(قل اللهم مالك الملك)آل عمران 26
وورد بصيغة المبالغة في آخر سورة القمر (في مقعد صدق عند مليك مقتدر)
المعنى اللغوي:
ملك الشيء أي حازه وانفرد باستعماله والانتفاع به أو التصرف فيه والاسم مالك.
والملَك(بفتح الميم واللام) هو واحد الملائكة، أما الملِك(بفتح الميم وكسر اللام)
فهو اسم من أسماء الله الحسنى.
وهو يعني ذو الملك وصاحب التصرف فيما يملك بجميع الوجوه ما علمناه منها وما لم نعلم.
فالله هو الملك صاحب التصرف المطلق الآمر الناهي الذي يصرف أمور عباده كما يشاء.
ولكن لماذا سمى الله نفسه مالك وملك؟
لأن المالك يملك وقد لا يحكم.
والملك يحكم وقد لا يملك.
والله هو المالك الملك الذي يملك ويحكم.... وقد وردت القراءتان في سورة الفاتحة (مالك يوم الدين) وفي قراءة أخرى (ملك يوم الّدين(
الله مالك كل شئ وما ملك:
وفي ذلك يقول سبحانه (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض(البقرة 107
و(لله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير) آل عمران 189
ومن آثار ملكه عز وجل لكونه أنه يملك استبدال هذا الكون أو بعض منه بخلق جديد وفي ذلك يقول جل وعلا: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلي الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلقٍ جديدٍ وما ذلك على الله بعزيزٍ) فاطر 17:15
سئل أعرابي يملك قطيعاً من الغنم، لمن هذه؟ قال: لله في يدي
وإنما خصّ الله نفسه بأنه ملكُ يوم الدين ومالكُ يوم الدين لأمرين:
الأول:أن الله يبدل الأرض في ذلك اليوم غير الأرض والسموات غير السموات،كما قال تعالى)يوم تُبدَّل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهَّار (إبراهيم:48
فحتى ينبه الله العباد على أن السموات والأرض له فهو سبحانه مالكهما.
الثاني: لأنه كان في الدنيا منازعين في الملك، مثل فرعون ونمروذ وغيرهما، وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه، وكلهم خضعوا له، وفي يوم القيامة ينادي الرب سبحانه (لمن الملك اليوم(غافر:16
فلا يجيبه أحد فيجيب الحقُّ نفسه بنفسه (لله الواحد القَّهار)غافر:17
فلذلك قال: مالك يوم الدين، أي في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاض ولا مجاز غيره، سبحانه لا إله إلا هو.
وأيضا: أن البشر لهم شبهةُ ملك ٍ في الحياة الدنيا، فهم يملكون الأراضي والقصور والبساتين والذهب والفضة، ولكنهم بين خيارين إما أن يزول عنهم ما يملكونه في الدنيا،وإما أن يزولوا عنه، ويخلفوه وراءهم فهو ملك زائل،وعارية مسترجعة،لكنهم في يوم الدين يوم الحساب والجزاء لا يملكون شيئاً،فالناس في ذلك اليوم يحشرون حفاة عراة غرلاً كما قال تعالى (ولهُ الملكُ يوم يُنفخ في الصور) الأنعام 73.
وعندما يُفني الله يوم القيامة الأحياء ويبيدهم،يأخذ سمواته بيمينه،والأرض بيده الأخرى كما قال تعالى)وما قدروا الله حقَّ قدره والأرض جميعاً قبضتُهُ يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه(الزمر:67.
وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم (يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله،ثم يقول:أنا الملك،أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) رواه مسلم
تمجيد العباد ربهم بصفة الملك:وعلى العباد أن يمجدوا ربهم بما علّمهم أن يمجدوه به قال تعالى (تبارك الذي بيده الملكُ وهو على كل شيءٍ قدير)الملك1
فالله يمجد نفسه في هذه الآية تعليماً لعباده أن يمجدوه بذلك،مقرين بأنه تبارك وتعالى هو المتصرف في جميع مخلوقاته كما يشاء لا راد لأمره ولا معقب لحكمة كما قال تعالى.
(قل اللهم ملك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممَّن تشاء وتعزُّ من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيءٍ قديرٌ)آل عمران26
فلأنه هو المالك فله مطلق التصرف في ملكه فلا يحدث شئ إلا بأمره، فمرد الأمور كلها لله، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، يقدر أسباب الخير والعز لمن يشاء، ويذل من يشاء ويسلب نعمه عمن يشاء فكل شئ بيده ولذلك ورد في الدعاء المأثور:
(اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، ولك الشكر كله وإليك يرجع الأمر كله، علا نيته وسره، أسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم)
وليس المقصود من الآية كما يعتقد بعض المسلمين أن يستسلم للواقع المهين ويرضى بالظلم ويقنع بالمهانة ويقول - مهملا الأخذ بالأسباب - الحمد لله على كل حال هذه إرادة الله !!!
يا أخي هذه إرادة الله في القاعدين والكسالى ؛ فهذا معنى جبري لا ينبغي للمسلم أن يقول به أبدا، فإن عون الله لا يكون للكسالى والقاعدين، إنما عون الله لمن يبذل ما في وسعه آخذا بالأسباب ثم يترك النتائج على الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله. وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان) رواه مسلم
ثمار الإيمان:
1- اليقين بأن هذا الملك كله بيد الله وحده فهو سبحانه الذي يملك كل شئ (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير) الملك 1
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمجد ربه باسمه الملك فيقول:
إذا أمسى (أمسينا وأمسى الملك لله،والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير،رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها رب وأعوذّ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها،رب وأعوذ بك من الكسل،وسوء الكبر،أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر،وإذا أصبح قال ذلك أيضاً، أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله) مسلم
2- الله المستحق للعبادة لأنه الملك وما يعبد من دونه آلهة باطلة لأنها لا تملك:
لما كان الحق تبارك وتعالى هو الخالق لكل شيء والمالك لكل شيء والمتصرف في كل شيء فإنه وحده المستحق للعبادة دون سواه،والآلهة التي تعبد من دون الله مخلوقة مملوكة مربوبة،لا تملك من دون الله شيئا،وألوهيتها باطلة،وعبادتها ظلم وضلال قال تعالى(قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً والله السميع العليم)المائدة:76.
3- عدم الاغترار بالمال أو السلطان:
وقد ضرب الله لنا أمثلة في القرآن للعظة والعبرة فأعطانا مثال المغتر بسلطانه في فرعون الذي بلغ به الكبر والغرور أن يقول أنا ربكم الأعلى فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر وجعله عبرة لمن يعتبر !!
وأعطانا مثال المغتر بماله في قارون، وقد حدثنا القرآن عن كنوز قارون فقال سبحانه وتعالى (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)76القصص
إن مفاتيح الخزائن التي تضم الكنوز، كان يصعب حملها على مجموعة من الرجال الأشداء(العصبة والعصابة العدد من 40:10) فكيف كانت الكنوز ذاتها؟!
ويبدو أن العقلاء من قومه نصحوه بألا يفرح فرحا يؤدي بصاحبه إلى نسيان من هو المنعم بهذا المال،ولا ينبغي أن ينسى الآخرة مغترا بالدنيا،وأن عليه أن يتصدق من هذا المال.....
فكان رد قارون جملة واحد تحمل شتى معاني الفساد)قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي(لقد أنساه غروره مصدر هذه النعمة وحكمتها، وفتنه المال وأعماه الثراء.
فلم يستمع قارون لنداء قومه، ولم يشعر بنعمة ربه.
وخرج قارون ذات يوم على قومه، بكامل زينته، فطارت قلوب بعض القوم، وتمنوا أن لديهم مثل ما أوتي قارون، وأحسوا أنه في نعمة كبيرة.
فرد عليهم من سمعهم من أهل العلم والإيمان: ويلكم أيها المخدوعون، احذروا الفتنة، واتقوا الله، واعلموا أن ثواب الله خير من هذه الزينة، وما عند الله خير مما عند قارون.
فيجيء العقاب حاسما (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) هكذا في لمحة خاطفة ابتلعته الأرض وابتلعت داره. وذهب ضعيفا عاجزا، لا ينصره أحد، ولا ينتصر بجاه أو مال.
وفي هذا يقول الشاعر:
قدم لنفسك خيرًا وأنت مالك مالك
قبل أن يكون لون حالك حالك (أسود)
ولست والله تدري أي المسالك سالك
إلى جنة عدن أو في المهالك هالك
4- العزة بالله:فلا نهاب إلا الله، فما منع الكثيرين من كلمة الحق إلا الخوف والجبن وضعف يقينهم بالله مالك الملم وملك الملوك.
ورحم الله الإمام العز بن عبد السلام حينما خرج في يوم عيد، وخرج موكب السلطان يجوب شوارع القاهرة، والناس مصطفون على جوانب الطريق، والسيوف مسلطة، والعساكر واقفة، وهنا وقف العز بن عبد السلام، وقال: يا أيوب (هكذا باسمه مجرداً من أي لقب) فالتفت أيوب ليرى من هذا الذي يخاطبه باسمه الصريح؟!!
فقال له الإمام العز: ما حجتك عند الله عز وجل غداً إذا قال لك: ألم أبوئك ملك مصر، فأبحت الخمور؟
فقال السلطان: أو يحدث هذا في مصر؟ قال: نعم، في مكان كذا وكذا حانة يباع فيها الخمر، وغيرها من المنكرات.
فقال: يا سيدي أنا ما فعلت، إنما هو من عهد أبي.
فهز العز بن عبد السلام رأسه، وقال: إذاً أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة، فقال: لا، أعوذ بالله، وأصدر أمراً بإبطالها فوراً، ومنع بيع الخمور في مصر.
أحد طلابه سأله: يا سيدي أما خفت من السلطان وهو في أبهته وعظمته؟ فقال: يا بني استحضرت عظمة الله عز وجل فصار السلطان قدامي كالقط !!!
5- الملك من الناس من يستغني عن كل شئ فلا يحنى الرأس بذل لغير الله من أجل دنيا فانية.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلّني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبّني الناس، فقال: (ازهد في الدنيا يحبّك الله، وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس).
،ومعنى ذلك: ألا يكون القلب متعلقا بما في أيدي الناس من نعيم الدنيا، فإذا فعل العبد ذلك، مالت إليه قلوب الناس، وأحبته نفوسهم.
والسرّ في ذلك أن القلوب مجبولة على حب الدنيا، وهذا الحب يبعثها على بغض من نازعها في أمرها، فإذا تعفف العبد عما في أيدي الناس، عظم في أعينهم ؛ لركونهم إلى جانبه، وأمنهم من حقده وحسده.
ولذلك قيل (أحسن إلى من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره)
ومما يروى في هذا الشأن:
دخل إبراهيم باشا بن محمد علي حاكم مصر المسجد الأموي في وقت كان فيه عالم الشام الشيخ سعيد الحلبي يلقي درسا في المصلين.
ومر إبراهيم باشا من جانب الشيخ، وكان مادا رجله فلم يحركها، ولم يبدل جلسته، فاستاء إبراهيم باشا، واغتاظ غيظاً شديداً، وخرج من المسجد، وقد أضمر في نفسه شراً بالشيخ.
وما أن وصل قصره حتى حف به المنافقون من كل جانب، يزينون له الفتك بالشيخ الذي تحدى جبروته وسلطانه، وما زالوا يؤلبونه حتى أمر بإحضار الشيخ مكبلا بالسلاسل.
وما كاد الجند يتحركون لجلب الشيخ حتى عاد إبراهيم باشا فغير رأيه، فقد كان يعلم أن أي إساءة للشيخ ستفتح له أبواباً من المشاكل لا قبل له بإغلاقها.
وهداه تفكيره إلى طريقة أخرى ينتقم بها من الشيخ، طريقة الإغراء بالمال، فإذا قبله الشيخ فكأنه يضرب عصفورين بحجر واحد، يضمن ولاءه، ويسقط هيبته في نفوس المسلمين، فلا يبقى له تأثير عليهم.
وأسرع إبراهيم باشا فأرسل إلى الشيخ ألف ليرة ذهبية، وهو مبلغ يسيل له اللعاب في تلك الأيام، وطلب من وزيره أن يعطي المال للشيخ على مرأى ومسمع من تلامذته ومريديه.
وانطلق الوزير بالمال إلى المسجد، واقترب من الشيخ وهو يلقي درسه، فألقى السلام، و قال للشيخ بصوت عال سمعه كل من حول الشيخ: هذه ألف ليرة ذهبية يرى مولانا الباشا أن تستعين بها على أمرك.
ونظر الشيخ نظرة إشفاق نحو الوزير، وقال له بهدوء وسكينة: يا بني، عد بنقود سيدك وردها إليه، وقل له: إن الذي يمد رجله، لا يمد يده.
مختارات