فقه المحبة (٤)
والدين كله يدور على أربع قواعد:
حب وبغض.. وفعل وترك.
فمن كان حبه وبغضه وفعله وتركه لله فقد استكمل الإيمان، وما نقص من إضافة هذه الأربعة إلى الله نقص من إيمانه بحسبه.
أما الحب مع الله فنوعان:
أحدهما: ما يقدح في أصل التوحيد وهو شرك، كمحبة المشركين لأصنامهم وأندادهم كما قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (١٦٥)} [البقرة: ١٦٥].
وهذه محبة تأله وموالاة يتبعها الخوف والرجاء والدعاء، وهذه المحبة محض الشرك الذي لا يغفره الله.
الثاني: محبة ما زينه الله للنفوس من النساء والبنين، والذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث، وهذه ثلاثة أنواع، ولها ثلاثة أحكام:
فإن أحبها توصلاً إلى طاعة الله، واستعانة بها على مرضاته، فهذه يثاب عليها.
وإن أحبها موافقة لطبعه وهواه، ولم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه، كانت من المباح الذي لا يعاقب عليه، ولكنه ينقص من كمال محبة الله.
وإن كانت هي المقصودة، وقدمها على ما يحب الله، كان ظالماً لنفسه، متبعاً لهواه، فهذه تقدح في كمال الإخلاص ومحبة الله، ولا تخرج من الإسلام.
والمحبة إذا كانت صادقة أوجبت للمحب تعظيماً لمحبوبه يمنعه من الانقياد إلى غيره، فالتعظيم إذا كان مجرداً عن الحب لم يمنع انقياد القلب إلى غير المعظم، وكذلك إذا كان الحب خالياً من التعظيم لم يمنع المحب أن ينقاد إلى غير محبوبه.
فإذا اقترن الحب بالتعظيم، وامتلأ القلب بهما، امتنع انقياده إلى غير المحبوب.
والمحبة نوعان:
أحدهما: محبة خاصة، وهي المحبة المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم، وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره، وهذه المحبة لا يجوز تعليقها بغير الله أصلاً، ولا تصلح إلا لله وحده، ومتى أحب بها غير الله كان شركاً لا يغفره الله.
والمقصود من الخلق والأمر إنما هو هذه المحبة، وهي أول دعوة الرسل، وآخر كلام العبد المؤمن الذي إذا مات عليه دخل الجنة، اعترافه وإقراره بهذه المحبة، وإفراد الرب بها.
فهو أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله، وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها، وجميع المقامات وسائل إليها، وأسباب لتحصيلها وتكميلها وتحصينها، فهي روح الإيمان، وساق شجرة الإسلام، وروح الإيمان والأعمال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، ولأجلها أنزل الله الكتاب والحديد، فالكتاب هاد إليها، ودال عليها، ومفصل لها، والحديد لمن خرج عنها، وأشرك فيها مع الله غيره ولأجلها خلقت الجنة والنار، فالجنة دار أهلها الذين أخلصوها لله وحده فأخلصهم الله لها.
والنار دار من أشرك فيها مع الله غيره، وسوى بينه وبين الله فيها.
الثاني: محبة مشتركة، وهي ثلاثة أنواع:
أحدهما: محبة طبيعية مشتركة كمحبة الجائع للطعام، ومحبة الظمآن للماء ونحو ذلك، وهذه المحبة لا تستلزم التعظيم.
الثاني: محبة رحمة وإشفاق كمحبة الوالد لولده الطفل ونحوها، وهذه أيضاً لا تستلزم التعظيم.
الثالث: محبة أنس وإلف، وهذه محبة المشتركين في صناعة أو علم أو تجارة أو سفر، بعضهم بعضاً، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضاً.
فهذه الأنواع الثلاثة هي المحبة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركاً في محبة الله سبحانه.
ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب الحلواء والعسل، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان أحب اللحم إليه الذراع، وكان يحب نساءه، وكان أحبهن إليه عائشة رضي الله عنها، وكان يحب أصحابه رضي الله عنهم، وأحبهم إليه الصديق رضي الله عنه.
وإذا استقرت محبة الله في القلب، استدعت من المحب إيثار محبوبه على غيره، وهذا الإيثار علامة ثبوتها وصحتها وصدقها.
فإن آثر غير المحبوب عليه لم يكن محباً له، وإنما هو محب لحظه ممن يحبه.
والمحبة الخالصة أن يحب المحبوب لكماله.. وأنه أهل أن يحب لذاته وصفاته.. وأن الذي يوجب هذه المحبة فناء العبد عن إرادته لمراد محبوبه.. فيكون عاملاً على مراد محبوبه منه.. لا على مراده هو من محبوبه.
وحب الله ورسوله يكون بالإيمان بالله، وإحياء سنة رسول الله في شعب الحياة كلها في العبادات والمعاملات، وفي المعاشرات والأخلاق.
فهذا الذي يحب الله ورسوله بقلبه، وتظهر آثار هذه المحبة على بدنه وجوارحه، وصدق اعتقاده وقوله بفعله.
أما من يقول بلسانه أنا أحب الله ورسوله وهو يأكل الحرام، ويلبس لباس الكفار، ويتشبه باليهود والنصارى في لباسه وأكله، ومعاملاته ومعاشراته، فإنما يوبخ نفسه، ويشهد الله وخلقه على سوء فعله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)} [آل عمران: ٣١].
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (١٣٥٩)، واللفظ له، ومسلم برقم (٢٦٥٨).
مختارات