" الــوَرَع "
" الــوَرَع "
الترغيب في الورع من السنة النبوية:
- عن سعد بن أبي وقاص وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضل العلم أحبُّ إليَّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع) [صححه الألبانى فى صحيح الجامع].
قال المناوي: (لأنَّ الوَرِع دائم المراقبة للحقِّ، مستديم الحذر أن يمزج باطلًا بحقٍّ، كما قال الحبر: كان عمر كالطير الحذر، والمراقبة توزن بالمشاهدة، ودوام الحذر يعقب النجاة والظفر) [فيض القدير].
- وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنَّ الصدق طمأنينة، وإنَّ الكذب ريبة) [صححه الترمذى].
قال ابن حجر: (قوله: (يريبك) بفتح أوله ويجوز الضمُّ، يقال: رابه يريبه بالفتح، وأرابه يريبه بالضمِّ ريبة، وهي الشكُّ والتردد، والمعنى إذا شككت في شيء فدعه، وترك ما يُشَكُّ فيه أصل عظيم في الورع... قال الخطابي: كلُّ ما شككت فيه، فالورع اجتنابه) [فتح البارى].
#### أقوال السلف والعلماء في الورع:
- قال أبو الدرداء رضى الله عنه: (تمام التقوى أن يتقي اللهَ العبدُ، حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حرامًا، حجابًا بينه وبين الحرام) [رواه ابن المبارك فى الزهد].
- وقال الحسن: (مازالت التقوى بالمتقين؛ حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام).
- وقال الثوري: (إنما سموا المتقين؛ لأنهم اتقوا ما لا يُتَّقى. ورُوي عن ابن عمر قال: إني لأحبُّ أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها).
- وقال ميمون بن مهران: (لا يسلم للرجل الحلال؛ حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال).
- وقال سفيان بن عيينة: (لا يصيب عبد حقيقة الإيمان؛ حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه) [فتح البارى].
- وقال إبراهيم بن أدهم: (الورع ترك كلِّ شبهة، وترك ما لا يعنيك هو ترك الفضلات).
- وقال بعض السلف: (لا يبلغ العبد حقيقة التقوى؛ حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس).
- وقال أبو هريرة رضى الله عنه: (جلساء الله تعالى غدًا أهل الورع والزهد) [الرسالة القشيرية،للقشيرى].
#### من فوائد الورع:
1- من فوائده أنه يجلب محبة الله سبحانه وتعالى.
2- فيه الاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
3- فيه ترك الشبهات، والبعد عنها.
4- به يطيب المطعم والمشرب.
5- أنه سببٌ لاستجابة الدعاء.
#### درجات الورع:
قال الهروي: (الورع على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: تجنُّب القبائح لصون النفس، وتوفير الحسنات، وصيانة الإيمان.
الدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به، إبقاءً على الصيانة والتقوى، وصعودًا عن الدناءة، وتخلصًا عن اقتحام الحدود.
الدرجة الثالثة: التورُّع عن كلِّ داعيةٍ تدعو إلى شتات الوقت، والتعلُّق بالتفرُّق، وعارض يعارض حال الجميع) [مدارج السالكين،لابن القيم].
#### صور ومظاهر الورع:
الورع له صور ومظاهر عدة، وقد ذكر ابن أبي الدنيا مظاهر للورع، منها:
1- الورع في النظر:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه: (لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنَّ لك الأولى، وليست لك الآخرة) [قال الحاكم صحيح على شرط مسلم].
عن أنس رضي الله عنه قال: (إذا مرَّت بك امرأة، فغمِّض عينيك حتى تجاوزك) [رواه ابن أبى الدنيا فى الورع].
عن داود الطائي قال: (كانوا يكرهون فضول النظر) [الورع،لابن أبى الدنيا].
قال عمرو بن مرة: (ما أحبُّ أني بصير، كنت نظرت نظرةً وأنا شاب) [الورع،لابن أبى الدنيا].
وقال وكيع: خرجنا مع سفيان الثوري في يوم عيد؛ فقال: (إنَّ أول ما نبدأ به في يومنا غضُّ أبصارنا) [الورع،لابن أبى الدنيا].
2- الورع في السمع:
- عن نافع قال: (سمع ابن عمر مزمارًا - قال - فوضع أصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق، وقال لي: يا نافع هل تسمع شيئًا؟ قال فقلت لا، قال فرفع أصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا) [صححه الألبانى فى صحيح سنن أبى داود].
3- الورع في الشم:
فعن محمد بن سعد بن أبي وقاص قال: (قدم على عمر رضي الله عنه مسكٌ وعنبرٌ من البحرين، فقال عمر: والله لوددت أني أجد امرأةً حسنةً تزن لي هذا الطيب؛ حتى أفرقه بين المسلمين. فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل: أنا جيدة الوزن، فهلمَّ أزن لك، قال: لا، قالت: ولم؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه هكذا - وأدخل أصابعه في صدغيه - وتمسحين عنقك، فأُصيب فضلًا عن المسلمين) [رواه أحمد فى الزهد].
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله (أنه أُتي بغنائم مسك؛ فأخذ بأنفه، فقالوا: يا أمير المؤمنين: تأخذ بأنفك لهذا؟ قال: إنما ينتفع من هذا بريحه؛ فأكره أن أجد ريحه دون المسلمين) [الورع،لابن أبى الدنيا].
4- الورع في اللسان:
- عن الحسن بن حي قال: (فتشت عن الورع؛ فلم أجده في شيءٍ أقل منه في اللسان) [الورع،لابن أبى الدنيا].
وعن الفضيل بن عياض قال: (أشدُّ الورع في اللسان) [الورع،لابن أبى الدنيا].
وعن يونس بن عبيد قال: (إنك لتعرف ورع الرجل في كلامه) [الورع،لابن أبى الدنيا].
وسئل عبد الله بن المبارك: (أيُّ الورع أشد؟ قال: اللسان) [الورع،لابن أبى الدنيا].
#### من وسائل اكتساب الورع:
ذكر الحكيم الترمذي بعض الوسائل في اكتساب الورع فقال: (فالورع من التورع يكون بخمسة أشياء:
أحدهما: بالعلم.
الثاني: بتذكرة منه لما عليه، ورغبته فيما له.
والثالث: بتذكرة عظمة الله، وجلاله وقدرته وسلطانه.
والرابع: بتذكرة استحيائه من الملك الجبار.
والخامس: بتذكرة خوفه من غضب الله عليه، وبقائه له على الشبه) [العقل والهوى،للحكيم الترمذى].
#### نماذج من ورع النبي صلى الله عليه وسلم:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة في الورع فكان زاهدًا ورعًا، وقد ضرب لنا نموذجًا أعلى في الورع فهذا أنس رضي الله عنه يحكي لنا مشهدًا من مشاهد الورع؛ فيقول:
- (مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بتمرةٍ مسقوطة، فقال: لولا أن تكون صدقة لأكلتها) [رواه البخارى ومسلم واللفظ للبخارى].
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأنقلب إلى أهلي، فأجد التمرة ساقطةً على فراشي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة؛ فألقيها) [رواه البخارى ومسلم].
قال ابن حجر: (والنكتة في ذكره هنا، ما فيه من تعيين المحل الذي رأى فيه التمرة، وهو فراشه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يأكلها، وذلك أبلغ في الورع) [فتح البارى،لابن حجر].
وقال المهلب: (إنما تركها صلى الله عليه وسلم تورعًا وليس بواجب؛ لأنَّ الأصل أنَّ كلَّ شيء في بيت الإنسان على الإباحة حتى يقوم دليلٌ على التحريم) [فتح البارى،لابن حجر].
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه (أنَّ الحسن بن علي رضي الله عنهما أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بالفارسية: كخ، كخ ! أما تعرف أنَّا لا نأكل الصدقة) [رواه البخارى].
#### نماذج من ورع السلف:
ورع أبي بكر رضي الله عنه:
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، غلامٌ يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنتُ لإنسانٍ في الجاهلية، وما أُحسِن الكهانة إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كلَّ شيءٍ في بطنه) [رواه البخارى].
ورع عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
- عن عاصم بن عمر (عن عمر قال: إنه لا أجده يحل لي أن آكل من مالكم هذا، إلا كما كنت آكل من صلب مالي: الخبز والزيت، والخبز والسمن، قال: فكان ربما يُؤتى بالجفنة قد صُنعت بالزيت، ومما يليه منها سمن، فيعتذر إلى القوم ويقول: إني رجل عربي، ولست أستمرئ الزيت) [رواه ابن أبى الدنيا فى الورع].
- وعن نافع (أنَّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمس مائة، فقيل له هو من المهاجرين، فلِمَ نقصته من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجر به أبواه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه) [رواه البخارى].
قال ابن عثيمين: (وهذا يدلُّ دلالة عظيمة على شدة ورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهكذا يجب على من تولَّى شيئًا من أمور المسلمين ألا يحابي قريبًا لقربه، ولا غنيًّا لغناه، ولا فقيرًا لفقره، بل ينزل كلَّ أحد منزلته، فهذا من الورع والعدل، ولم يقل عبد الله بن عمر: يا أبت، أنا مهاجر، ولو شئت لبقيت في مكة؛ بل وافق على ما فرضه له أبوه) [شرح رياض الصالحين].
ورع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
عن قزعة، قال: (رأيت على ابن عمر ثيابًا خشنة أو جشبة، فقلت له: إني قد أتيتك بثوب لين مما يصنع بخراسان، وتقرُّ عيناي أن أراه عليك، قال: أرنيه، فلمسه، وقال: أحرير هذا؟ قلت: لا، إنَّه من قطن، قال: إني أخاف أن ألبسه، أخاف أكون مختالًا فخورًا، والله لا يحبُّ كلَّ مختال فخور) [رواه أبو نعيم فى الحلية].
- وعن طاووس قال: (ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عباس) [سير أعلام النبلاء،للذهبى].
ورع محمد بن سيرين:
- عن العلاء بن زياد أنَّه كان يقول: (لو كنت متمنيًا لتمنيت فقه الحسن، وورع ابن سيرين، وصواب مطرِّف، وصلاة مسلم بن يسار) [سير أعلام النبلاء،للذهبى].
- وعن عاصم قال: (سمعت مورقًا العجلي يقول: ما رأيت أحدًا أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين، وقال عاصم: وذُكِرَ محمد عند أبي قلابة، فقال: اصرفوه كيف شئتم، فلتجدنه أشدكم ورعًا، وأملككم لنفسه) [سير أعلام النبلاء،للذهبى].
#### نماذج من ورع العلماء المتقدمين:
ورع عبد الله بن المبارك:
- عن الحسن بن عرفة قال: (قال لي ابن المبارك: استعرت قلمًا بأرض الشام، فذهبت على أن أردَّه، فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام؛ حتى رددته على صاحبه) [سير أعلام النبلاء،للذهبى].
- وقال الحسن بن الربيع: (لما احتضر ابن المبارك في السفر، قال: أشتهي سويقًا. فلم نجده إلا عند رجل كان يعمل للسلطان، وكان معنا في السفينة، فذكرنا ذلك لعبد الله، فقال: دعوه. فمات ولم يشربه) [سير أعلام النبلاء،للذهبى].
ورع أبي وائل شقيق بن سلمة:
(كان أبو وائل يقول لجاريته، إذا جاء يحيى -يعني ابنه- بشيءٍ فلا تقبليه، وإذا جاء أصحابي بشيء، فخذيه. وكان ابنه قاضيًا على الكناسة.
وكان لأبي وائل -رحمه الله- خصٌّ من قصب، يكون فيه هو وفرسه، فإذا غزا نقضه، وتصدق به، فإذا رجع أنشأ بناءه.
قلت: - القائل الذهبي - قد كان هذا السيد رأسًا في العلم والعمل) [سير أعلام النبلاء،للذهبى].
مختارات