كتاب «أدب الدين والدنيا» للإمام الماوردي
حكمــــــة
وكثيرًا ما يتداخلهم الإعجاب؛ لتوحُّدهم بفضيلة العلم، ولو أنهم نظروا حقَّ النظر، وعملوا بموجَب العلم.. لكان التواضعُ بهم أَولى، ومُجانبةُ العُجْب بهم أَحرى؛ لأنَّ العُجْبَ نقصٌ ينافي الفضلَ، لا سيَّما مع قول النبي ﷺ: «إنَّ العُجْبَ لَيأكُلُ الحسناتِ كما تأكُلُ النارُ الحطَبَ»، فلا يفي ما أدركوا من فضيلة العلم بما لحقهم من نقص العُجْب.
حكمــــــة
وعلة إعجابهم -أي العلماء-: انصرافُ نظرهم إلى كثرة مَنْ دونهم من الجهَّال، وانحرافُ نظرهم عمَّن فوقهم من العلماء؛ فإنَّه ليس مُتناهٍ في العلم إلا وسيجد مَن هو أعلمُ منه بشيء؛ إذ العلم أكثرُ من أن يحيط به بشرٌ، قال الله تعالى: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ﴾ يعني: في العلم ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ قال أهل التأويل: (يعني: فوق كلِّ عالمٍ مَن هو أعلمُ منه، حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى).
حكمــــــة
عن عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه أنَّهُ قال:
«مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا. أَمَّا طَالِبُ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَزْدَادُ لِلرَّحْمَنِ رِضًى، ثُمَّ قَرَأَ ﴿إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾. وَأَمَّا طَالِبُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَزْدَادُ طُغْيَانًا ثُمَّ قَرَأَ: ﴿كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾».
حكمــــــة
وَلْيَكُنْ مِنْ شِيمَتِهِ الْعَمَلُ بِعِلْمِهِ، وَحَثُّ النَّفْسِ عَلَى أَنْ تَأْتَمِرَ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَلَا يَكُنْ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾. فَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ﴾: يَعْنِي أَنَّهُ عَامِلٌ بِمَا عَلِمَ.
حكمــــــة
ومن آداب العلماء ألا يبخلوا بتعليم ما يُحسنون، ولا يمتنعوا من إفادة ما يعلمون؛ فإنَّ البخل به لؤمٌ وظلم، والمنع منه حسدٌ وإثم، وكيف يسوغ لهم البخل بما مُنحوه جودًا من غير بخل، وأُوتوه عفوًا من غير بذل؟
أم كيف يجوز لهم الشحُّ بما إن بذلوه زاد ونما، وإن كتموه تناقص ووهى؟ ولو استنَّ بذلك مَن تقدَّمهم لما وصل العلم إليهم، ولا نقرض عنهم بانقراضهم، ولصاروا على مرور الأيام جهَّالًا، وبتقلُّب الأحوال وتناقضها أرذالًا؛ وقد قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾.
حكمــــــة
ومن آدابهم أن يقصدوا وجه الله تعالى بتعليم مَن علَّموا، ويطلبوا ثوابه بإرشاد مَن أرشدوا، من غير أن يعتاضوا عنه عِوضًا، ولا يلتمسوا عليه رزقًا؛ فقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ قال أبو العالية: «لا تأخذوا عليه أجرًا، وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا بنَ آدم؛ علِّم مَجّانًا كما عُلِّمتَ مَجّانًا».
حكمــــــة
ومن آدابهم ألا يمنعوا طالبًا، ولا ينفِّروا راغبًا، ولا يؤيسوا متعلِّمًا؛ لما في ذلك من قطع الرغبة فيهم، والزهد فيما لديهم، واستمرارُ ذلك مفضٍ إلى انقراض العلم بانقراضهم؛ وقد روي عن النبي ﷺ أنَّه قال: «ألا أنبِّئكم بالفقيه كلِّ الفقيه؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «مَن لم يُقنط الناسَ من رحمة الله تعالى، ولم يُؤيِسْهم من رَوْح الله، ولا يدَعُ القرآنَ رغبةً إلى ما سواه، ألا لا خيرَ في عبادةٍ ليس فيها تفقُّهٌ، ولا علمِ ليس فيه تفهُّمٌ، ولا قراءةٍ ليس فيها تدبُّرٌ».