أقوام نعموا بالنعمة
صاحبنا تخدشه النسمة، ويشتعل شواظ تعبه ببعض الحر، ويتخير لنفسه دومًا أشياءه: ساعته، هاتفه، ثيابه، طعامه، في غير سرف ولا مَخِيلة، لكنه في مجموع أمره يعيش في خفضٍ ورفاهٍ أطمع بعض أصحابه في صيد قلبه في نزهتهم التي تعاقدوا على ميعادها، وقد كان، فخرجوا إلى مكان تناثرت فيه الفتن والأجساد التي قال في مثلها الشاعر:
تهَادَى في الثيابِ كما تَهَادَى|| حَباب الماء يتَّبِع الحبابَا!
وتصافحت الأعين وصاحبنا ذو الرفاه مُطرق منصرف عن عرائس اليم والبحر! فعجبوا لابن النعمة أن يكون منه هذا الذي لا يصبر عن مثله شابٌ اجتمعت له تلك الأسباب اللاتي اجتمعت له، والطريق ميسورة والأبواب مُشرَعةٌ له يعبُّ من تيار الفتنة الجارف ما يشتهي ويريد، وهو هوَ الذي لا يطيق إطفاء المكيف ولا خشونة الثوب!
فقال لهم: هذا الذي تذكرون من أمري هو الذي صرفني عن هذه المفاتن المتأنقة! إني لأعهد من نفسي حب الرفاه، والعيش في خفضٍ وسعَة، وما مسني وهج حرٍّ لا أطيق، حتى يكون كالواعظ الذي يقول لي: تعلم ضعفك الذي لا يصبر على مس شوكة، ونِعم الله عليك كالشجر الذي يُظِلّك في هاجرة الحياة ونصبها، فاستدمها بشكره؛ فإن الشجر كما يكون للظل، يكون أيضًا إن شاء صاحبه طعامًا للنار!
وقد كان غيلان بن جرير يقول عن مطرف بن عبد الله رضي الله عنه: كان يلبس المطارف والبرانس، ويركب الخيل، ويغشى السلطان، ولكنه إذا أفضيتَ إليه، أفضيت إلى قرة عين!
وقال عنه الإمام الذهبي: كان مطرف له مال، وثروة، وبزة جميلة، ووقع في النفوس!
أولئك أقوام نعموا بالنعمة، وسعوا بفضل ربهم عليهم، لالتماس فضل ربهم عليهم، وانطلقوا من النعيم الذي هم فيه إلى طلب النعيم الذي لا موت فيه!
مختارات