المعاناة....والمعنى.
في إحدى ليالي الشتاء في جدة،
(في الواقع أن جدة لا تعرف إلا الشتاء المجازي) شعرت بآلام مبرحة في الظهر لم أتمكن بسببها من النوم ولا البقاء حتى في الفراش، كانت آلاما جديدة لم أكن قد عرفت نوع هذا الآلام من قبل.
قبل هذه الليلة بيومين كنت قد بدأت في قراءة كتاب (الإنسان والبحث عن المعنى) قصة الطبيب النفسي النمساوي فيكتور إميل فرانكل الذي مر بتجربة مريرة في معسكرات الاعتقال النازية في الحرب العالمية الثانية ودون خبراته من منظور نفساني عن علم نفس المعتقل وهو صاحب النظرية الشهيرة العلاج بالمعنى.
رغم الآلام المزعجة قررت المضي قدما في قراءة الكتاب.
قلت لنفسي:
لطالما وقفنا على منصات الوعظ نوجه خطابا من منطقة الراحة للذين تسحقهم المعاناة وتلتهمهم الآلام.
ماذا لو واصلت القراءة لأعرف جدوى أن تستمع للنصائح وأنت في بؤرة الوجع وقلب البركان.
هل يمكن أن أجد مبررا للإصغاء أو الفهم أو التواصل! هل عندنا فرصة للاتصال الفكري مع كاتب أو واعظ أو ناصح بينما نختنق في جسد يتألم بشدة؟.
ما معنى أن تستمع لهذه الأصوات التي تحاول مساعدتك بالحروف واللغة بينما تئن أنت في معركة السيالات العصبية وكيمياء الجسد.
لقد كانت تجربة فريدة فالكتاب (الإنسان والمعنى) يتحدث عن محاولات الكاتب الذي يتشارك ذات الظروف مع رفاقه في معسكرات العذاب كان يحاول مساعدة الآخرين الذين انزلقوا إلى حضيض من الإحباط والتلاشي والانسحاق وكانوا ينتظرون الموت وفقدوا أي بارقة أمل في سجنهم الطاحن لإنسانيتهم وأجسادهم وذكرياتهم وحاضرهم ومستقبلهم.
كان (فرانكل) يقاسي الجوع والضرب والمرض والهوان والعمل الشاق الذي يعيشونه.
وأنا أقرأ عن قصص مروعة وفظائع مرعبة من جهة ومن جهة أخرى وأنا أتابع الطبيب الذي يوجه نصائحه المفيدة عن المعنى.
لم أشعر أن آلامي تتلاشي بالقراءة أو حتى تخف لكنني في الوقت نفسه استيقظت معان مركزية في روحي كانت خامدة تحت الركام.
فكرة الكاتب باختصار تبدو انقلابا على مدراس العلاج النفسي الأخرى (التحليل النفسي والمدرسة السلوكية والمدرسة المعرفية)
إلى منهج علاجي يقول إن رؤية الإنسان للمعنى هو السبيل الوحيد للتعايش مع الألم واجتياز أمراضه النفسية واستعادة صحة روحه.
لن أمضي بعيدا في الحديث عن تفاصيل مدرسة المعنى فقد تحدث عنها الطبييب في كتابه بل في مجلدات كثيرة أخرى كما يقول.
بدأ الكاتب آسرا وصادقا وشغوفا بالمساعدة ومتشبعا بالقناعة التي توصل إليها من الدراسات والإحصاءات والخبرة الشخصية وأنه لا سبيل للحل والخلاص إلا بالبحث عن المعنى.
لكنه حين أراد الإفصاح عن حقيقة المعنى الذي يريده
كان يبدو كهارب بمرضاه من غابة تحترق ليسلمهم للتيه والصحراء والعطش والضياع من جديد..
حين جاء يتحدث عن المعنى لم يجد معنى محددا يمكن للملايين الذين يعانون أن يتشبثوا به فأعادهم إلى نسبية مضللة تزعم أن لكل واحد معناه الخاص بل والمتغير في كل لحظة والذي يمكنه أنه يختاره ويصممه ويولده ويغيره على الدوام.
هذا المعنى الهلامي السائل الذي يريد الكاتب أخيرا أن يخبرنا أنه المعنى الذي يمكن أن نعيش من أجله ويبرر لنا الألم والموت أيضا.
لقد كانت نهاية محبطة للكتاب وخادعة ومتوقعة أيضا.
لقد هدته فطرته لرفض تحليل فرويد لكن لم تسعفه علومه لأن يذهب بعيدا أكثر من أن يكتشف ضرورة المعنى لحياتنا.
لم تكن لديه الهداية الكافية لأن يقول
إن المعنى لا بد أن يكون متساميا عن كل شيء قابل للموت والفقد والغياب.
المعنى الذي ذكره الله في كتابه
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)
المعنى في دين الأنبياء معنى حقيقي وليس وهما ولا حرباء تتشكل بألوان الأغصان.
المعنى صامد وراسخ وأكبر من أمواج الآلام العاتية.
(ليعبدون)
الفعل المضارع الذي يدل على اصطباغ كل الحياة بالمعنى في الليل والنهار وفي كل لحظات وأنفاس الفرح والألم.
المعنى الحيوي الملتصق بنا إلى غاية الامتزاج
لسنا نستدعي المعنى عند الألم أو نفتش عنه وقت الكرب فحسب.
في اشد حالات الألم معنى حقيقي يسمو بنا
حين نشهد في دواخلنا شعور التطهير والاغتسال والكفارة وإرادة الخير بنا من الرب الودود.
الحياة محاريب للعبادة والحب لله.
محاريب الألم والحزن والعذابات والفقد والفراق
ومحاريب الصلاة والطواف والذكر والصيام.
هذا اليقين الذي يبقي أرواحنا متماسكة حتى لو تشظى الجسد نفسه.
ذهبت ذات مرة برفقة شقيقي لصديق تعرض أحد ابنائه لحادث فقد فيه ساقه وقدمه حيث بترتها سيارة مسرعة جاءت من الخلف بيننا كان يقود هو دراجة نارية
كانت مشاعرنا نحن الزائرين متوترة كيف سنواجه صديقنا ومشاعره ومشاعر ابنه الشاب. لكن الشاب دخل المجلس في كرسي متحرك مشرق الوجه مرحبا كأنما أراد أن يعزينا بدت روحه كاملة مكتملة الأطراف.
بدت روحه كأنما نمت وازدهرت يقول الحمد لله لو أن السيارة المسرعة كانت إلى اليمين قليلا لسحقتني تماما
لكن الله متعني بحياة جديدة للتعويض والاستدراك.
سآخذ طرفا صناعيا فالأطراف الصناعية تتطور -حسب كلامه- بشكل كبير سأستكمل الحياة.
منحنا الشاب العشريني عزاءات كثيرة لآلامنا
مشاعر المعنى لا تلغى حقائق الألم لا تمنحنا الراحة في أعضائنا المنهكة لكنها تضخ فينا طاقة لمتابعة الطريق.
العزاء لا يعني أن نزيل آلام المتعبين أو نخففها حتى.
العزاء في فكرة المعنى هو التسامي بالإنسان إلى المغزى والغاية من عذاباته
أنجع العزاءات تلك القادرة على التحليق بأرواحنا الموجعة بالألم إلى الافق حيث نرى فيه جدوى تلك الآلام وفائدتها.
المعنى الأمين الصادق القادر على إقناع تلك الأرواح وليس خداعها.
العزاء
أن نعطيهم وقودا لمتابعة السير وأن نذكرهم أن محطة الفرج ليست بعيدة من هنا.
وأن الأفق أوسع من خانقة الألم الحاضرة.
وأن ما يحدث لنا ولهم ليس هو كل شىء
العزاء هو توسيع الصورة في حائط الحياة
العزاء ليس إبرة تخدير أو جلسة تنويم مغنطيسي بل هو صراخ بأعماق الإنسان لبعث فطرته الأولى التي انغرس المعنى فيها لأول مرة.
حيث المشهد الكامل بما في ذلك الآلام الراهنة.
العزاء أن توقظ بصيرتك أن أوجاعك تحت عين الله وبصره بكل تفاصيلها.
المعنى هو قصة حياتنا ومغزى وجودنا وجواب أسئلة الألم فينا.
الألم محطات في طريق الحياة لا بد من خوضها للوصول وربما تكون الأخيرة أشدها ألما
لأن المعنى يتجلى في الألم أكبر من تجلياته في السعة والرحب.
الحب والخضوع لربنا هو المعنى
المعنى الذي ينتشلنا من اليأس والضجر والسأم والإحباط
لقد قامت براهين الحياة كلها لتأكيد هذا المعنى.
لكن المختبرات والمعامل تنضم كذلك لتوطيد الحقيقة التي هي في وضوحها أوضح من البرهان.
مختارات