(سورة المسد)
في هذه السورة المكية العظيمة مشهد من مشاهد نصرة الله لأوليائه وانتقامه الشديد من أعدائه.
فقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم حين صعد الصفا وجمع بطون قريش،ليبلغهم رسالة الله وينذرهم عذابه؛ انبعث الشقي أبو لهب فقال ( تبا لك سائر هذا اليوم ألهذا جمعتنا) وكان ينفض يديه فنزلت هذه السورة.
قال تعالى
(تبت يدا أبي لهب وتب)
الرد عليه بذات الحروف ونص الكلمات (التباب) وهو الخسران والخيبة والهلاك.
يرد بها الله عن رسوله. ويدفع عنه بقرآن يتلى وكلام تكلم الله به سبحانه. وجمع فيه من صنوف الانتقام في الدنيا والآخرة ما يخلع القلوب.
فأما في الدنيا فقد فضح الله أبا لهب بالتنويه باسمه -نصا- وليس وصفا لتسير السورة بعاره في العرب والعجم في القبائل والأمصار في القرون والزمان. بهذا العنوان الذي افتتحت به السورة ليلتصق اسمه بالتباب والخسران التصاقا
وجاءت خواتم الآيات بحرف متسق بالحرف الذي يختم به اسمه ووصف النار باللهب ليقع هذا الالتحام والتعانق الكلي الذي تذكر به كل كلمة في السوره.
وكان أشق ما يكون على العربي انتشار الذم له. فانتقم الله من أبي لهب بسورة قصيرة في نفسها وقصيرة الآيات وهذا أيسر على الحفظ والشيوع.
واختص الله يديه الخائبتين اللتين نفضهما في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم بالتباب والخسران مع أنهما تعبير عن خسارة الإنسان نفسه ولكن العدول إلى هذا اللفظ هنا له إشارة لا تخفى.
وتكرار الدعاء عليه بالتباب أو بالدعاء أولا ثم الخبر ( (تبت) يدا أبي لهب (وتب) كل ذلك يدل على شدة غضب الله عليه فليس المراد بيان المعنى بالخسران فحسب بل تأكيد ذلك.
وهذا معلوم في لغة العرب فإن تكرار اللعن أو الدعاء على الغير لا يكون إلا في أعظم مقامات السخط والبغض.
وأبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم أبناء أبي لهب وكان المنتظر منه لمكان القرابة أن يصدق النبي صلى الله عليه وسلم وينصره وقد عرف صدقه وأمانته أكثر من غيره أو يدافع عنه كما يدافع العم عن ابن أخيه حمية له كما فعل أبو طالب ولو بقي على دينه أو يصمت ويترك مبادرة التكذيب لغيره
أما أن يتولى دون كل كفار مكة القيام بتكذيب الرسول في أول مقام علني للدعوة دون اعتبار لأي معنى فطري كالقرابة والصهر والرحم أو أخلاقية كالجوار والعهد والعشرة فهذا يدل على خبث نفسه وفساد قلبه
(ما أغنى عنه ماله وما كسب)
أي لم يدفع عنه ضرا ولم يقرب له خيرا
فهاهو قد أحاط به الذم والهوان في الدنيا من كل جانب واسمه مقترن بالذكر السيء والخسران وأهل الأموال والأولاد يكتسبون منازلهم في الدنيا با أموالهم وأولادهم وهذا لم يحصل له إلا الهوان والذلة والوضاعة.
(سيصلى نارا ذات لهب)
أي سيذوق ويقاسي ويلازم نارا عظيمة يرتفع دخانها وشررها لشدة توهجها واضطرامها
وتوعده الله بعينه بهذا الوعيد خاصة وهو حي لأنه بلغ من الشر مبلغا ختم فيه على قلبه ختما لا يرجى معه صلاح.
وهذا من آيات الله ومن دلائل نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد بقي أبو لهب على كفره حتى مات.
(وامرأته حمالة الحطب)
وفي سياق التشنيع عليه والانتقام كشف الله ستر أهله وألصق بامرأته لقبا يناقض تكبرها واعتزازها بنسبها وثرائها ويطيح بكل فخرها وسمعتها الزائفة وعاقبها بنقيض غايتها من المحافظة على مكانتها فجعل لها هذا الاسم الذي تأنف منه طبقتها.
وقال سبحانه
(حمالة الحطب)
ولم يأت التعبير بالشوك والله أعلم لأن الله جعل الحطب لحكمة ينتفع به أهله لا ليكون شوكا يلقى في الطريق فكأن التعبير لتناقض فعلها مع غاية الخلق من الحطب.
وجاء التعبير بصيغة المبالغة (فعالة) للدلالة على تكرار ذلك منها وإمعانها في أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(في جيدها حبل من مسد)
في عنقها حبل من نبات يعرفه أهل مكة وهو السلب. وهو من الحبال الخشنة القوية. والجيد الذي هو محل تزين المرأة وقلادتها وتجملها فسلبها الله الجمال والزينة حين كانت وزوجها يسعيان في تشويه جمال الرسالة والنبوة وصاحبها فشانهم الله وكتب عليهم العار والصغار الراسخ على مر العصور.
مختارات