طلب الرَّزاق قبل طَلب الرِّزق
إنَّ كُلَّ مؤمنٍ مَدْعُوٌّ أن يُرضيَ خالقه، ويسعى في طلب مرضاته، سعياً أشدَّ وأعظمَ من سعيه في طلب رزقه، وهذا ما أفهمه من قوله تعالى في سورة [القصص]: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْـمُفْسِدِينَ﴾.
والآياتُ التي تدلُّ على هذه المعاني كثيرةٌ، وحسبك منها قوله تعالى:
* في سورة [آل عمران]: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾
فقد دعا سبحانه وتعالى عبادهُ المؤمنين إلى التَّنافس والسُّرعة في طريق مرضاته، وساحة طاعاته، وذلك لا يتحقَّقُ إلا بالمبادرة السَّريعة إلى الإنفاق في سبيل الله تعالى، سرَّاً وجهراً، في السِّلْم وفي الحرب، في الرَّخاء ووقت الشدَّة. والصَّفْحِ والعفو عن المسيء في حُدود الكرامة وحِفْظ الحقوق. والتوبةِ الصَّادقة النَّصوح والاستغفارِ من كلِّ ذنبٍ بغير إصرارٍ عليه، ولا تعمُّد له، حيث تتابعت الآياتُ تصفُ المتقين: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ134/3وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ135/3أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ136﴾
* وفي سورة [الجمعة] قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ9/62فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 10﴾
فالآية دعتْ إلى المبادرة والسَّعي الحثيث إلى الصَّلاة والطاعة يوم الجمعة، وترك جميع ما يصدُّ أو يلهي عن ذلك، ولو كان على رأسك مشاغلُ الدنيا وزينتها من بيع وشراء، وذلك لتحقيق مرضاة الله تعالى، فما عنده من خيرٍ وثواب أفضلُ بكثير مما يجمعه الناس في دنياهم من متاع، وحطام، أو ينشغلون به من لهو.
﴿قُلْ مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ11﴾ فالاهتمام بطاعة الله مُقدَّمٌ على الاهتمام بالدُّنيا، ولا سيما حين يزدحمان في وقتٍ يطلب فيه الشَّارع عبادةً معينة، لا تصحُّ في غيره، فيغدو الأمر لازماً، والمبادرة إلى الطَّاعة فرضاً، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ مثله، كما في السَّعي إلى المسجد يوم الجمعة حين النِّداء.
* وفي سورة [الذَّاريات] قوله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ50﴾ فالله تعالى يدعونا إلى المسارعة إلى ساحته، وتنفيذ أوامره، وترك نواهيه؛ للحصول على توفيقه ومرضاته، ولاسيما في المعضلات والمشكلات، فلا ملجأ إلَّا إليه، ولا نجاةَ إلَّا في ساحته، ولا فوزَ إلا في مرضاته، ولا هُدى إلا في تشريعه ومنهجه. ومن فرَّ إليه وجدَ الأمنَ والأمان، والراحة والاطمئنان. وهذا التاريخُ الصَّادقُ يُحدِّثنا أنَّ من اعتصم بحبل الله اهتدى فنجا وفاز، ومن اتَّبع خُطُوات الشَّيطانِ، ضلَّ، فغوى، وهلك، ولذا ذكرتْ سورة [الذَّاريات] قبل ذلك مصير قوم لوط: ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ33/51مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ34﴾
وذكر تعالى فرعون وجنوده: ﴿وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ38/51فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ39/51فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ40﴾
وذكر عاداً: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ41/51مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ42﴾
وقال في ثمود: ﴿وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ43/51فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ44/51فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ45﴾
وانتهت السُّورة بقوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ60﴾
لِتُبَيِّنَ أنَّ النَّجاةَ هي خاصَّة بمن فرَّ وسارع إلى الله، وأنََّ الخسارةَ والويلَ لمن كذب وتولى، فطغى وبغى، وآثر الحياة الدنيا.
* وفي سورة [المطففين] قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ22/83عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ23/83تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ24/83يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ25/83خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْـمُتَنَافِسُونَ26﴾
وإذا عرفنا أنَّ (اللام) في كلمة ﴿فليتنافس﴾ هي لام الأمر، أدركنا معنى الأمر الإلهيّ في وجوب المبادرة إلى ما يرضي الله، والمسارعة في ساحة الطَّاعات إلى ما يضمن دخول الجنَّات، حيث النعيمُ المقيمُ، ونضرةُ النعيم، والرَّحيق المختوم؛ ولمثل هذا فليعمل العاملون، فهو خيرٌ مما يجمعون.
أرأيتَ معي- أيُّها القارئُ الكريم- في الآيات السَّابقة وجوب المسارعة والتَّسابق في طلب مرضاة الرَّزاق، ذي القُوَّة المتين؟.
وإليك آية في الحديث عن طلب الرزق؛ لتتبيَّنَ الفرقَ الواضحَ بين طلب الرَّزاق وطلب الرِّزْق.
* جاء في سورة [الملك] قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ 15﴾
فالله تعالى يدعونا في هذه الآية الكريمة إلى استخراج ما في الأرض من كنوز وخيرات، فهي مُذَلَّلَةٌ لذلك، ولكنَّه سبحانه قال: ﴿فامشوا﴾ ولم يقلْ فاسعوا؛ ليدرك المؤمنُ أنَّ همته في طلب مرضاة الرازق يجب أن تفوق همَّتَه في طلب الرزق، وأنَّ سعيه للرزق يجب أن يكون في حدود فعل المأمورات وترك المنهيات؛ حتى يسعدَ في الدنيا، ويُبعث يوم القيامة في عدادِ الأبرار، ولذا انتهتِ الآية بقوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ لتشعرَ العبدَ الكسوبَ أنه مسؤولٌ يوم القيامة عن كلِّ ما يجني من رزق: «من أين اكتسبه وأين أنفقه» فيكون طلبه للرزق في إطار وحدود مرضاته للرَّازق، وهذا ما عناه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: «إنَّ روحَ القُدُس نفثَ في روعي: أنَّ نَفْساً لن تموتَ حتى تستكملَ رزقها وأجلها، فاتَّقوا اللهَ، وأَجْمِلُوا في الطَّلب، ولا يحملنكم استبطاءُ الرِّزق على أن تطلبوه في معصيته، فإنَّ ما عند الله تعالى لا يُنالُ إلَّا بطاعته» عند مَن قدَّر التَّبِعة والجزاء.
ورَحِمَ الله الشَّاعر:
إِنِّي عجبتُ لأمِّ العمرِ إذ هَرَبَتْ من شيبِ رأسي وما بالشيبِ من عارِ
ما شقوةُ المرء بالإقتار يقترهُ ولا سـعادتُه يوماً بإكثـارِ
إنَّ الشقيَّ الذي في النَّار مَنْزِلُه والفوزُ فوزُ الذي ينجو مِنَ النَّارِ
أعوذُ بِـاللهِ من أَمْرٍ يزينُ لي شَتْمَ العشيرةِ أو يُدْني مِنَ العارِ
ما خَيْرُ دنيا يُنْسي المرءَ آخرةً وسوف تبدو إلى الجبَّارِ اسْراري
لا أدخلُ البيتَ أحبو من مؤخره ولا أكسرُ في ابنِ العم أَظْفَاري
* * *
* المصدر: نظرات في كتاب الله تعالى: الشيخ هشام عبدالرزاق الحمصي.
مختارات