أطباؤه مرضى
وطب القلوب من العلوم التي شحَّت في زماننا، ونتج عنه المرض الذي عمَّ وانتشر حتى أصاب كثيرا من علمائنا وحاملي دوائنا ؛ فحفظت أذهانهم الشروح والمتون، ونسيت جوارحهم الهدى والمنون، وقالت ألسنتهم أنهم عالمون ونطقت أفعالهم أنهم جاهلون.
وأكثر علماء زماننا نوعان:
نوع منكبٌ على حطام الدنيا لاهث وراءها، لا يمل جمعها، ويتقلب شهره ودهره في ملذاتها، وقد أخذت دنياه بمجامع قلبه، ولزمه خوف الفقر وحب التكاثر ؛ وأكثر هؤلاء دُفِع إلى ذلك دفعا وأُريد له أن ينشغل بالسعي وراء لقمة العيش والكدِّ من أجل الرزق وأُعطوا في مقابل ذلك الكفاف ؛ ليس غير الكفاف، ليظلوا دوما غارقين في الإعصار، دائرين في الرحى، لا يبلغون ما يأملون، ولا يتركون السعي إلى ما يطمحون، وبذلك نسوا أسمى مهامهم وأشرفها وهي وراثة الأنبياء والقيام بوظيفة الرُّسل.
ونوع آخر اختصر الطريق على نفسه، ورضي بالحرام السهل، والشبهة المربحة، واتخذ الإيمان سلعة، يبيع بعضه أو كله، ويقبض الثمن توسعة وإكراما وإغداقا وأموالا، أهل تصنُّع ودهاء، وتزيُّن للمخلوقين، وتملُّق للحكام، يلتقطون الرُّخص ويفتون بها، ديدنهم المداهنة، وطريقتهم المنافقة، ولذا عمَّ البلاء وعزَّ الدواء، وقد سبق للعالم المجاهد عبد الله بن المبارك أن رأى أحد إخوانه يسلك أول هذا الطريق فقام بواجبه في النصح على الفور، ومدَّ له يد العون، وما أطيب سيرة رجل كابن المبارك كأريج الزهور تنقلها الريح من سهل إلى سهل ومن عصر إلى عصر متجاوزة حدود الزمان والمكان، لتنقل لنا أنه لما قيل له: إن إسماعيل بن علية قد ولي الصدقات كتب إليه ابن المبارك [ت: 181] أبياتا من الشعر تصلح لكل زمان سرى فيه هذا الداء فقال:
يا جاعل العلم له بازيا... يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها... بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنونا بها بعد ما... كنت دواءً للمجانين
أين رواياتك في سردها... عن ابن عون وابن سيرين
أين رواياتك والقول في... لزوم أبواب السلاطين
إن قلت أُكرهتُ فماذا كذا... زلَّ حمار العلم في الطين
فلما قرأ الكتاب بكى واستعفى.
وإن كان لموت القلب علامات تختلف من شخص إلى آخر ومن مهنة إلى أخرى ؛ فإن أبرز علامات موت قلب العلماء وأشهرها هي ما عرفناه من مالك بن دينار [ت: 130] الذي قال: " سألتُ الحسن [ت: 110]: ما عقوبة العالم؟ قال: موت القلب. قلت: وما موت القلب؟ قال: طلب الدنيا بعمل الآخرة ".
وسمَّاهم ربيعة الرأي [ت: 133] بالسفلة وسفلة السفلة، فقد روى مالك بن أنس [ت: 179]: " قال لي أستاذي ربيعة الرأي: يا مالك! من السفلة؟ قلت: من أكل بدينه، فقال: فمن سفلة السفلة؟ قال: من أصلح دنيا غيره بفساد دينه ".
أظهروا لله دينا * وعلى الدينار داروا
وله صاموا وصلوا * وله حجوا وزاروا
لو بدا فوق الثريا * ولهم ريش لطاروا
عالم السوء الذي لا يعمل بعلمه فتنة ووبال على نفسه وغيره، ومَثَله مثل صخرة وقفت في فم النهر ؛ لا هي تشرب ولا هي تدع الماء يخلص إلى الزرع.. ارحمونا يا علماء السوء!!
إن الفقيه إذا غوى وأطاعه ** قوم غووا معه فضاع وضيَّعا
مِثل السفينة إن هوت في لجة ** تغرقْ ويغرقُ كل من فيها معا
مختارات