الصفة العشرون من صفات المؤمنين التوكل على الله
التوكل من صفات المؤمنين كاملي الإيمان، فهو من صفات المؤمنين حقًا، والتوكل فريضة يجب إخلاصها لله -تعالى-، وهو من أفضل العبادات، وأعلى مقامات التوحيد، ولا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين
وقد أمر الله بالتوكل في آيات كثيرة من كتابه أكثر مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة، بل جعل الله -تعالى- التوكل شرط في الإيمان وشرط في الإسلام، قال الله -تعالى-: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
ومفهوم الآية انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل، قال ابن القيم -رحمه الله- على هذه الآية: فجعل التوكل على الله شرطًا في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه " ا.هـ. "
وقال -تعالى-: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فجعل التوكل شرطًا في الإسلام، ومفهوم الآية: انتفاء الإسلام عند انتفاء التوكل، قال ابن القيم -رحمه الله-: فجعل دليل صحة الإسلام التوكل ا.هـ.
وقال -تعالى- آمرا بالتوكل: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وقال -تعالى-: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا وقال -تعالى-: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا وقال -تعالى-: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا وقال -تعالى-: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.
والتوكل لا بد فيه من أمرين:؟
أحدهما: تفويض الأمر إلى الله، واعتماد القلب على الله مع صحة الإيمان.
والثاني: فعل الأسباب التي أمر الله بها دينية أو دنيوية، فالدينية: أداء الفرائض والانتهاء عن المحارم، ومثل طلب العلم الشرعي، والدنيوية: كالحرث والزراعة والتجارة وغير ذلك.
والتوكل في اللغة: قال في القاموس: " وكل بالله يكل وتوكل على الله، وأوكل واتَّكل: استسلم إليه، ووكل إليه الأمر وكلا ووكولا سلمه وتركه " ا.هـ.
وقال ابن الأثير الجزري يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان أي: ألجأته واعتمدت عليه فيه، ووكل فلان فلانًا إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته، أو عجز عن القيام بأمر نفسه " ا.هـ. "
والتوكل على الله من صفات المؤمنين حقا الذين وعدهم الله -تعالى- بدرجات عند ربهم، ووعدهم بالمغفرة لذنوبهم، ووعدهم برزق كريم، وهو ما أعد لهم في الجنة، قال الله -تعالى-: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.
فأخبر -تعالى- أن المتصفين بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان، ومن صفاتهم العظيمة أنهم على ربهم يتوكلون، أي: يفوضون إليه أمورهم، ويثقون به، ولا يرجون غيره، ولا يخافون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه.
والتوكل على الله من صفات السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الشيخان - البخاري ومسلم - والترمذي والنسائي في عرض الأمم على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن أمته لما عرضت عليه قيل له: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ولما خاض الناس فيهم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.
" فذكر في أعمالهم وأوصافهم الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال وهو التوكل على الله، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه، الذي هو خلاصة التفريد، ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء، والرضا بالله ربًا وإلهًا، والرضا بقضائه " .
فالتوكل على الله من الصفات القلبية؛ لأنه تفويض للأمور كلها لله واعتماد بالقلب عليه، وهو يدعو ويوجب ويقتضي من المتوكل فعل الأسباب ومباشرتها، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه حتى الحيوان البهيم، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب، كما قال الله -تعالى-: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي: كافية، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا طمع لعدوه فيه.
ومباشرة الأسباب لا ينافي التوكل كما لا ينافي دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وتعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في أمر الرب وحكمته.
قال بعض السلف في قوله -تعالى-: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل التوكل عليه نفس كفايته فقال: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ا. هـ.
وفي هذه الآية دليل على فضل التوكل، وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار؛ لأن الله علق الجملة الأخيرة: فَهُوَ حَسْبُهُ على الجملة الأولى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ تعليق الجزاء على الشرط، ورتب الحكم على الوصف المناسب له، فعلم أن التوكل على الله هو سبب كون الله حسْبًا، له ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
فالتوكل على الله عبادة وفرض، وصرفه لغير الله شرك، لكن التوكل على غير الله قسمان:
أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من النصر والحفظ والرزق والشفاعة، فهذا شرك أكبر؛ لأن هذه الأمور ونحوها لا يقدر عليها إلا الله.
الثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة العادية كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما جعله الله بيده من الرزق أو دفع الأذى ونحو ذلك، فهذا شرك أصغر، لما فيه من ميل القلب إلى المخلوق، وإن كانت الأسباب ظاهرة.
وأسأل الله -تعالى- أن ينفع بهذه الكلمات في هذا البحث المتواضع، وأن يجعلني أول المنتفعين، وأن يجعل ذلك خالصًا مرادًا به وجه الله -سبحانه-، وأسأل الله -سبحانه- أن يوفقني في المستقبل لمواصلة الكتابة في هذا الموضوع، إنه -سبحانه- خير مسئول وأكرم مسئول.
وأسأله -سبحانه- أن يوفقني وإخواني المسلمين للعمل الصالح الذي يرضيه، ومجاهدة النفس للاتصاف بصفات المؤمنين وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- إنه -سبحانه- حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
مختارات