الصفة التاسعة عشر من صفات المؤمنين إقامة الشهادة والقيام بها:
إن من صفات المؤمنين التي مدح الله أهلها وأثنى عليهم: إقامة الشهادة والقيام بها، فقال -تعالى-: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ.
وأخبر -سبحانه- أنه باتصافهم بذلك مع أوصاف أخرى يدخلون الجنة، يكرمون فيها بالنعيم، فقال -تعالى-: أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ.
ومعنى إقامة الشهادة: القيام فيها بالحق، والمحافظة عليها، وأداؤها بدون زيادة ولا نقصان، وعدم كتمانها وتغييرها، وأداؤها بالحق عند الحاكم على من كانت عليه من قريب أو بعيد، عدو أو صديق، وقد أمر الله -تعالى- في سورة الطلاق بإقامة الشهادة لله، فقال -تعالى-: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ أي: أدوها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا، خالية من التحريف والتبديل والكتمان.
وقد أمر الله -تعالى- عباده المؤمنين أن يكونوا قوّامين بالعدل، شهداء لله لا لغيره ولو على أنفسهم أو الوالد أو القريب، فيشهد بالحق، وإن عاد ضرر الشهادة عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد، وسواء كان المشهود عليه غنيًا أو فقيرًا، فلا يراعى لغناه، أو يشفق عليه لفقره.
فالله -تعالى- يتولى الغني والفقير، وهو أولى بهم من الشهادة، وأعلم بما فيه صلاحهما، وينبغي للشاهد وغيره أن يلزم العدل في أموره وشئونه كلها، ويلزم العدل على أي حال، ولا يحمله الهوى والعصبية والبغض على ترك العدل، قال الله -تعالى- في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا.
قال -سبحانه- في آية المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
فأمر الله المؤمنين أن يكونوا قوامين بالحق لله -عز وجل- لأجل الرياء والسمعة، وأن يكونوا شهداء بالعدل لا بالجور، بل يستعملون العدل في كل أحد، صديقًا كان أو عدوًا.
وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- أنه قال: نحلني أبي نحلةً، فقالت أمي -عمرة بنت رواحة-: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجاء ليشهده على صدقتي، فقال: أكل ولدك نحلته مثله؟ قال: لا، قال: اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم -وقال-: إني لا أشهد على جور فرجع أبي فردّ تلك الصدقة.
وقد توعد الله من كتم الشهادة وتركها أو حرّفها وغيرها، وتعمّد الكذب فيها فإنه سيلقى جزاءه عند الله؛ لأن الله -تعالى- خبير بعمله وقصده ونيته، فيجازيه على ذلك بما يستحقه قال -تعالى-: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وقال -تعالى-: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ أي: لا تخفوها وتغلّوها إذا دعيتم إلى إقامتها وأدائها، ومن فعل ذلك فهو فاجر قلبه، كقوله في الآية الأخرى: وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ.
وخصّ القلب بالذكر؛ لأن الكتمان من أفعاله، وهو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد، وبفسادها يفسد الجسد، كما قال -صلى الله عليه وسلم- ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب أخرجه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
وإضافته الإثم إلى القلب أبلغ في الوعيد؛ لأن إثم القلب سبب مسخه، والله -تعالى- مسخ قلبًا جعله منافقًا وطبع عليه. نعوذ بالله من ذلك.
وقد نهى الله -تعالى- الشهداء عن الامتناع من تحمل الشهادة إذا دعوا إلى ذلك، وكذا إذا دعوا إلى إقامة الشهادة وأدائها، بل عليهم الإجابة إذا تعينت عليه، قال -تعالى-: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وتحمّل الشهادة فرض كفاية على الصحيح، وكذا أدائها فرض كفاية كما هو مذهب جمهور العلماء
وقد ثبت في صحيح مسلم ورواه أهل السنن أيضا من حديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنه قال: ألا أخبركم بخير الشهداء؟ هو الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها.
لكنه عارضه حديث عمران بن حصين الذي أخرجه الشيخان ومسلم - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلومونهم، ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن.
ومثله حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته أخرجه البخاري في صحيحه.
وقد اختلف العلماء في الجمع بينهم على أقوال أحسنها وأرجحها أن حديث زيد بن خالد الجهني محمول على ما إذا كان عند الشاهد شهادة بحق، لا يعلم بها صاحب الحق، أو يغلب على ظنه أنه نسيها، فيأتي إليه فيخبره بها، أو يموت صاحبها فيخلف ورثة، فيأتي إليهم فيخبرهم بأن عنده لهم شهادة.
الثاني: أن حديث زيد بن خالد الجهني محمول على شهادة الحسبة: وهي ما لا يتعلق بحقوق الآدميين المختصة بهم محضًا، ويدخل في الحسبة ما يتعلق بحق الله -تعالى-، أو فيه شائية منه كالصلاة والوقف والوصية العامة ونحوها، أما حديث عمران بن حصين وحديث عبد الله بن مسعود فهما محمولان على الشهادة في حقوق الآدميين المحضة.
الثالث: أن قوله في حديث زيد بن خالد الجهني الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها محمول على المبالغة في الإجابة، فيكون لقوة استعداده كالذي أتى بها قبل أن يسألها، كما يقال في حق الجواد: أنه ليعطي قبل الطلب.
وهذه الأجوبة مبنية على أن الشهادة لا تؤدى قبل أن يطلبها صاحب الحق، ومن العلماء من أجاز تأدية الشهادة قبل طلب صاحب الحق لها، عملًا بحديث زيد بن خالد الجهني وأجاب عن عمران بن حصين وحديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما- بأجوبة:
أحدهما: أنهما محمولان على شهادة الزور، والمعنى: أنهم يؤدون شهادة لم يسبق لهم بها علم، حكى هذا القول الترمذي عن بعض أهل العلم.
الثاني: أنهما محمولان على شهادة الإنسان على ما لا يعلم مما سيكون من الأمور المستقبلة، فيشهد على قوم بأنهم من أهل النار وعلى قوم بأنهم من أهل الجنة كما يفعل ذلك أهل البدع.
الثالث: أنهما محمولان على إتيان أهل الشاهد بالشهادة بلفظ الحلف، كأن يقول: أشهد بالله ما كان إلا كذا.
قلت: وأرجح هذه الأقوال: القول الأول، وهو أن الأصل ألا يؤدي الشهادة حتى تطلب منه؛ عملًا بحديث عمران بن حصين وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما- ونحوهما، مما فيه ذم المتسرّع بالشهادة قبل أن تطلب منه، وحديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- محمول على ما إذا كان صاحب الحق لا يعلم بالشهادة، أو يغلب على ظن الشاهد أنه نسيها، أو مات صاحب الحق وورثته لا يعلمون بالشهادة؟ فيأتي الشاهد، فيخبر صاحب الحق بالشهادة التي له عنده، ونسأل الله -تعالى- أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فإنه -سبحانه- يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
مختارات