المخرج من الفتن (الجزء الثامن)
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ النَّاظِرَ فِي حَالِ الْعَالَمِ الْيَوْمَ، وَخَاصَّةً فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مُسْتَوَى أَفْرَادِهِمْ وَمُجْتَمَعَاتِهِمْ يَجِدُ أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِفِتَنٍ عَظِيمَةٍ، وَمِحَنٍ جَسِيمَةٍ، تَعَاظَمَ خَطَرُهَا، وَتَطَايَرَ شَرَرُهَا، تَنَوَّعَتْ أَسْبَابُهَا وَاخْتَلَفَتْ مَوْضُوعَاتُهَا؛ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فِي الْعُقُولِ وَالأَنْفُسِ، فِي الأَعْرَاضِ وَالأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَالْمُمْتَلَكَاتِ، تَتَضَمَّنُ فِي طَيَّاتِهَا تَحْسِينَ الْقَبِيحِ، وَتَقْبِيحَ الْحَسَنِ، وَلأَجْلِ هَذَا فَقَدْ جَاءَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ غَوَائِلِ الْفِتَنِ وَشُرُورِهَا وَمُدْلَهِمَّاتِهَا، وَقَدْ وَصَفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- الْفِتَنَ بِقَوْلِهِ: " تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ، وَتَؤُولُ إِلَى فَظَاعَةٍ جَلِيَّةٍ، فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ، وَتَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلاَمَةٍ، وَتَخْتَلِفُ الأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا، مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ، وَمَنْ سَارَ فِيهَا حَطَمَتْهُ " ثُمَّ يُوَجِّهُ -رضي الله عنه- بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى اجْتِنَابِ الْفِتَنِ فَيَقُولُ: " فَلاَ تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ، وَأَعْلاَمَ الْبِدَعِ، وَالْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ، وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ، وَأقْدَمُوا عَلَى اللهِ مَظْلُومِينَ، وَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ " [موقف المسلم من الفتن، عبد الله الجار الله]
«العزلة عند اضطراب الحق بالباطل»
• عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأ أو معاذا فليعذ به). [متفق عليه]
(ستكون فتن القاعد فيها) أي القاعد في زمنها عنها (خير من القائم) لأن القائم يرى ويسمع ما لا يراه ولا يسمعه القاعد، فهو أقرب إلى الفتنة منه، قال بعضهم: المراد بالقائم الذي لا يستشير فيها وقيل: هو من باشرها غير قائم بأسبابها (والقائم فيها) يعني القائم بمكانه في تلك الحالة (خير من الماشي) في أسبابها (والماشي فيها خير من الساعي) إليها أي الذي يسعى ويعمل فيها، بحيث يكون سبباً لإثارتها.
قال النووي: القصد بيان عظم خطرها والحث على تجنبها والهرب منه والتسبب في شيء منها وأن شرها يكون على حسب التعلق بها (من تشرف لها) تطلع إليها [أي الفتنة] (تستشرفه) أي تجره لنفسها وتدعوه إلى الوقوع فيها، والتشرف: التطلع، واستعير هنا للإصابة بشرورها (ومن وجد فيها ملجأ) أي عاصماً أو موضعاً يلتجئ إليه ويعتزل إليه (أو معاذاً) بفتح الميم -شك من الراوي- أي محلاً يعتصم به منها (فليعذ به)
وفي رواية لمسلم (فليستعذ) أي ليذهب إليه ليعتزل فيه، ومن لم يجد فليتخذ سيفاً من خشب، والمراد أن بعضهم أشد في ذلك من بعض: فأعلاهم الساعي لإثارتها، فالقائم بأسبابها وهو الماشي، فالمباشر لها وهو القائم، فمن يكون مع النظارة ولا يقاتل وهو القاعد، فمن لم يفعل شيئاً لكنه راض وهو القائم، وهذا تحذير من الفتنة وحث على تجنبها وأن شرها يكون بحسب التعلق بها والمراد بها الاختلاف في طلب الملك حيث لم يعلم المحق من المبطل. [المناوي، فيض القدير]
• عن خالد بن عَرْفَطَة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (ستكون أحداث وفتنة وفرقة واختلاف، فإن استطعت أن تكون المقتول لا القاتل فافعل). [الحاكم]
(ستكون أحداث وفتن وفرقة واختلاف) أي أهل فتن وأهل فرقة وأهل اختلاف، أو المراد نفس الفتن والفرقة والاختلاف (فإن استطعت أن تكون المقتول لا القاتل فافعل) يعني كف يدك عن القتال، واستسلم، والظاهر أن هذا في فتن تكون بين المسلمين، أما الكفار فلا يجوز الاستسلام لهم. [فيض القدير]
• عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس غربلة، ويبقى حثالة من الناس [الرديء من كل شيء، والمراد أرذلهم]، قد مرجت عهودهم وأماناتهم [فسدت] واختلفوا فكانوا هكذا -وشبك بين أصابعه- قالوا: فكيف بنا يا رسول الله؟ قال: تأخذون ما تعرفون [أي ما تعرفون أنه الحق، ولا تدورون في فلك الشبهات والبدع والأهواء]، وتذرون ما تنكرون، وتقلبون على أمر خاصتكم [أي أمر نفسك وأهلك]، وتدعون أمر عامتكم) [المستدرك]
• عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَأْخُذَ اللَّهُ شَرِيطَتَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ [أَيْ: مَن يَخْتَارُه من أَهْلِ الخَيْرِ] فَيَبْقَى فِيهَا عَجَاجَةٌ [الغوغاء والأراذل ومن لا خير فيه] لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا) [رواه أحمد، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح]
• عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: إذا وقع الناس في الفتنة فقالوا: اخرج؛ لك بالناس أسوة، فقل: لا أسوة لي بالشرِّ
• وقال علي: ستكون فتنة عمياء مُظلِمة مُنكسِفة [مظلمة من كسفت الشمس]، لا ينجو منها إلا النومة، قيل: وما النومة؟ قال: الذي لا يَدري ما الناس فيه.
• عن جندب بن عبد الله، أنه قال في الفتنة: " إنه من انْبَجَسَ لها أردتْه ".
• قال محمد بن الحنفيَّة: اتقوا هذه الفتن، فإنها لا يَستشرِف لها أحد إلا استبقتْه، ومَن قابَلها اجتيح.
• قيل لسعد بن أبي وقاص: " ما يمنعك من القتال؟ قال: لا، حتى تُعطوني سيفًا يعرف المؤمن من الكفر ". وممن اعتزل الفتن عامر بن ربيعة العنزي العدوي - رضي الله عنه - قال عنه الحاكم في المستدرك: " وكان قد لزم بيتَه، فلم يشعر به الناس إلا بجنازته قد أُخرِجت "، وكان عامر قد سأل الله أن يقيَه الفتنة، فاستجاب الله دعاءه، فقبضه إليه. وأخرج ابن سعد من رواية أبي عقيل بشير بن عقبة، قال: قلتُ ليزيد بن الشخير: ما كان مطرف بن الشخير يصنع إذا هاج الناس، قال: يَلزَم قعْر بيته، وكان إذا كانت الفتنة نهى عنها وهرب، وكان الحسن ينهى عنها ولا يَبرَح، وورد عن كعب بن سور الأزدي أنه طين عليه بيتًا، وجعل فيه كوة، يتناول منها طعامه وشرابه؛ اعتزالاً للفتنة.
مختارات