مناسك الحج وصفته وفضل يوم عرفات والمشعر الحرام
قال تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 196 - 203].
قوله عز وجل: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ اختلفوا في إتمامهما، فقال بعضهم: هو أن يتمهما بمناسكهما وحدودهما وسننهما، وهو قول ابن عباس، وعلقمة، وإبراهيم النَّخَعي، ومجاهد، وأركان الحج خمسة: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الزيارة، والسعي بين الصفا والمروة، وحَلْق أو تقصير، (وهذا عند الشافعية؛ لأن الإمام البغوي شافعي المذهب، أما الجمهور من أحناف ومالكية وحنابلة فعندهم أركان الحج أربعة، ويرون الحلق والتقصير واجبًا من واجبات الحج)، وقال الضحاك: إتمامهما أن تكون النفقة حلالاً، وينتهي عما نهى الله عنه، وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج من أهلك لهما، ولا تخرج لتجارة ولا لحاجة أخرى.
وقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ اختلَف العلماء في الإحصار الذي يبيح للمحرم التحللَ من إحرامه؛ فذهب جماعة إلى أن كل مانع يمنعه عن الوصول إلى البيت الحرام والمضي في إحرامه من عدو أو مرض أو جرح أو ذهاب نفقة أو ضلال راحلة - يبيح له التحلل، وبه قال ابن مسعود، وإبراهيم النَّخعي، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، وعروة بن الزبير، وإليه ذهب سفيان الثوري وأهل العراق، واحتجوا بما رُوي عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحجُّ من قابل)، وذهب جماعة إلى أنه لا يباح له التحلل إلا بحبس العدو، وهو قول ابن عباس، وقال: لا حصر إلا حصر العدو، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق، ثم المحصَر يتحلل بذبح الهَدْي وحلق الرأس، والهَدْي بشاة، وهو المراد من قوله تعالى: ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ [البقرة: 196]، ومحِلُّ ذبحه حيث أحصِر عند أكثر أهل العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح الهدي عام الحديبية بها، وذهب قوم إلى أن المحصر يقيم على إحرامه، ويبعث بهديه إلى الحرم، ويواعد من يذبحه هناك، ثم يحل، وهو قول أهل العراق، ومعنى قوله تعالى: ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ [البقرة: 196]؛ أي: فعليه ما تيسَّر من الهدي، والهدي جمع هدية، وهي اسم لكل ما يُهدَى إلى بيت الله تقربًا إليه، وما استيسر من الهدي: شاة؛ قاله علي بن أبي طالب وابن عباس؛ لأنه أقربُ إلى اليُسر، وقال الحسن وقتادة: أعلاه بَدَنة، وأوسطه بقرة، وأدناه شاة.
قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾ [البقرة: 196]، اختلفوا في المحل الذي يحِلُّ المحصَر ببلوغ هديه إليه، فقال بعضهم: هو ذبحه بالموضع الذي أحصر فيه، سواء كان في الحِلِّ أو في الحرَم، ومعنى (محله) حيث يحل ذبحه فيه، وقال بعضهم: محِل هَدْي المحصر: الحرم، فإن كان حاجًّا فمحِلُّه يوم النحر، وإن كان معتمرًا فمحِلُّه يوم يبلغ هديه الحرم.
قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ ﴾ [البقرة: 196]، معناه: لا تحلِقوا رؤوسكم في حال الإحرام إلا أن تضطروا إلى حلقه لمرَض أو لأذًى في الرأس من هوامَّ أو صداع، ﴿ فَفِدْيَةٌ ﴾ فيه إضمار؛ أي: فحلَق، فعليه فدية، يطعم فَرَقًا بين ستة مساكين، أو يُهدي شاةً، أو يصوم ثلاثة أيام.
قوله تعالى: ﴿ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ ﴾؛ أي: ثلاثة أيام، ﴿ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾؛ أي: ثلاثة آصُع على ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، أو نسك، واحدتها نسيكة؛ أي: ذبيحة؛ أعلاها بدنة، وأوسطها بقرة، وأدناها شاة، أيتها شاء ذبح، فهذه الفدية على التخيير والتقدير، ويتخير بين أن يذبح أو يصوم أو يتصدق، وكل هَدْي أو طعام يلزم المحرِمَ يكون بمكة، ويتصدق به على مساكين الحرم، إلا هديًا يلزم المحصر؛ فإنه يذبحه حيث أحصر، وأما الصوم فله أن يصوم حيث يشاء، قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ ﴾؛ أي: من خوفكم، وبرَأْتم من مرَضكم، ﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: 196]، قال ابن عباس وعطاء وجماعة: هو الرجل يقدَمُ معتمرًا من أفق الآفاق في أشهر الحج، فقضى عمرته وأقام حلالاً بمكة حتى أنشأ منها الحج، فحج من عامه ذلك، فيكون مستمتعًا بالإحلال من العمرة إلى إحرامه بالحج، فمعنى التمتع: هو الاستمتاعُ بعد الخروج من العمرة بما كان محظورًا عليه في الإحرام إلى إحرامِه بالحج.
﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ﴾ الهَدْيَ، ﴿ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ﴾؛ أي: صوموا ثلاثة أيام، يصوم يومًا قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة، ولو صام قبله بعدما أحرم بالحج جاز، ولا يجوز يوم النحر، ولا أيام التشريق عند أكثر أهل العلم، قوله تعالى: ﴿ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾؛ أي: صوموا سبعة أيام إذا رجعتم إلى أهليكم وبلدكم، فلو صام السبعة قبل الرجوع إلى أهله لا يجوز، وهو قول أكثر أهل العلم، رُوي ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وقيل: يجوز أن يصومها بعد الفراغ من أعمال الحج، وهو المراد من الرجوع المذكور في الآية، قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ ذكرها على وجه التأكيد، وهذا لأن العرب ما كانوا يهتدون إلى الحساب، فكانوا يحتاجون إلى فضل شرح وزيادة بيان، يعني: فصيام عشرة أيام، ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجعتم؛ فهي عشرة كاملة، وقيل: كاملة في الثواب والأجر، وقيل: كاملة فيما أريد به من إقامة الصوم بدل الهَدْي ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي: هذا الحكم، ﴿ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾، واختلفوا في حاضري المسجد الحرام، فذهب قوم إلى أنهم أهل مكة، وهو قول مالك، وقيل: هم أهل الحرم، وبه قال طاوس، وقال الشافعي: كل من كان وطنه من مكة على أقلَّ من مسافة القصر، فهو من حاضري المسجد الحرام، وقال عكرمة: هم مَن دون الميقات، وقيل: هم أهل الميقات فما دونه، وهو قول أصحاب الرأي، ودم القران كدمِ التمتع، والمكيُّ إذا قرن أو تمتع فلا هدي عليه، ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ في أداء الأوامر، ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ على ارتكابِ المناهي.
قوله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾؛ أي: وقت الحج أشهر معلومات، وهي: شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر، ويروى عن ابن عمر: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾؛ أي: فمن أوجب على نفسه الحج بالإحرام والتلبية، ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ ﴾ اختلفوا في الرَّفَث؛ قال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر: هو الجماع، وقيل: الرَّفث: الفُحش والقول القبيح، أما الفسوق فقد قال ابن عباس: هو المعاصي كلها، وقال ابن عمر: هو ما نُهِي عنه المحرم في حال الإحرام من قتل الصيد، وتقليم الأظفار وأخذ الأشعار وما أشبههما، وقال إبراهيم وعطاء ومجاهد: هو السِّباب، وقال الضحاك: هو التنابُز بالألقاب، ﴿ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾، قال ابن مسعود وابن عباس: الجدال أن يماريَ صاحبه ويخاصمه حتى يُغضبه، ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾؛ أي: لا يخفى عليه فيجازيكم به، قوله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ نزَلَتْ في ناسٍ من أهل اليمن كانوا يخرجون إلى الحج بغير زاد ويقولون: نحن متوكِّلون، ويقولون: نحن نحج بيت الله فلا يطعمنا، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، وربما يفضي بهم الحالُ إلى النهب والغصب، فقال الله جل ذكره: ﴿ وَتَزَوَّدُوا ﴾؛ أي: ما تتبلَّغون به وتكفُّون به وجوهكم، قال أهل التفسير: الكعك والزبيب والسَّويق والتمر ونحوها، ﴿ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ (لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا، أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها؛ كما قال: ﴿ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26]، ﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾: يا ذوي العقول.
قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 198]، يعني: التجارة في مواسم الحج، ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ ﴾ دفعتم، والإفاضة: دفع بكثرة ﴿ مِنْ عَرَفَاتٍ ﴾ هي جمع عرفة، جمعت عرفة بما حولها وإن كانت بقعةً واحدة؛ كقولهم: ثوب أخلاق، ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ بالدعاء والتلبية، ﴿ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾؛ أي: مزدلفة، وهو ما بين جَبَلي المزدلفة من مرمى عرفة إلى المحسر، وليس المأزمان ولا المحسر من المشعر الحرام، وسمي مشعرًا من الشعار، وهي العلامة؛ لأنه من معالم الحج، وأصل الحرام من المنع؛ فهو ممنوع أن يفعَل فيه ما لم يؤذَنْ فيه، وسمي المزدلفة جمعًا؛ لأنه يُجمع فيه بين صلاة المغرب والعشاء، والإفاضة من عرفات تكون بعد غروب الشمس، ومن جمع قبل طلوعها من يوم النحر، ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾؛ أي: واذكروه بالتوحيد والتعظيم، كما ذكركم بالهداية، فهداكم لدِينه ومناسك حجه، ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [البقرة: 198].
قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ [البقرة: 199] قال أهل التفسير: كانت قريش وحلفاؤها ومَن دان بدينها، وهم الحُمس، يقعون بالمزدلفة ويقولون: نحن أهل الله وقطَّان حرمه، فلا نخلف الحرم ولا نخرج منه، ويتعظمون أن يقفوا مع سائر العرب بعرفات، وسائر الناس كانوا يقفون بعرفات، فإذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمس من المزدلفة، فأمرهم الله أن يقفوا بعرفات ويفيضوا منها إلى جمعٍ مع سائر الناس، وأخبرهم أنه سنة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199] (كثيرًا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات؛ ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثًا، وفي الصحيحين أنه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثًا وثلاثين، وقد روى ابن جرير استغفاره صلى الله عليه وسلم لأمته عشية عرفة.
وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة، ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة)؛ (أخرجه البخاري وابن مردويه)، وفي الصحيحين عن عبدالله بن عمر أن أبا بكر قال: يا رسول الله، علمني دعاءً أدعو به في صلاتي فقال: (قل: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت؛ فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني؛ إنك أنت الغفور الرحيم)، والأحاديث في الاستغفار كثيرة).
قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ ﴾ [البقرة: 200]؛ أي: فرغتم من حجِّكم وذبحتم نَسائِكَكم؛ أي: ذبائحكم، يقال: نسك الرجل ينسك نسكًا إذا ذبح نسيكته، وذلك بعد رميِ جمرة العقبة والاستقرار بمنًى، ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ بالتكبير والتحميد والثناء عليه، ﴿ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ ﴾؛ وذلك أن العرب كانت إذا فرغت من الحج وقفت عند البيت فذكرت مفاخر آبائها، فأمرهم الله بذكره، وقال: ﴿ فَاذْكُرُونِي ﴾ [البقرة: 152]؛ فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم، وأحسنت إليكم وإليهم، قال ابن عباس وعطاء: معناه: فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباءَ؛ وذلك أن الصبي أول ما يتكلم يلهج بذكر أبيه لا يذكر غيره، فيقول الله: فاذكروا الله لا غير، كذكر الصبي أباه، ﴿ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾، وسئل ابن عباس عن قوله: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ ﴾ [البقرة: 200] فقيل: قد يأتي على الرجل اليومُ لا يذكر فيه أباه، قال ابن عباس: ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله إذا عُصي أشدَّ من غضبك لوالديك إذا شُتما، وقوله تعالى: ﴿ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ يعني: بل أشد؛ أي: وأكبر ذِكرًا، ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ﴾ [البقرة: 200]، أراد به المشركين، كانوا لا يسألون الله تعالى في الحج إلا الدنيا، ﴿ وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾: من حظٍّ ونصيب.
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار ﴾ [البقرة: 201] يعني: المؤمنين، واختلَفوا في معنى الحسنتين؛ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: في الدنيا حسنة امرأة صالحة، وفي الآخرة حسنة الجنة والحُور العين، وقال الحسن: في الدنيا حسنة العلم والعبادة، وفي الآخرة حسنة الجنة والنظر.
وقال السُّديُّ وابن حيان: في الدنيا حسنة: رزقًا حلالاً وعملاً صالحًا، وفي الآخرة حسنة المغفرة والثواب، وقال قتادة: في الدنيا عافية، وفي الآخرة عافية، وقال عوف: في هذه الآية من آتاه الله الإسلام والقرآن وأهلاً ومالاً فقد أوتي في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة.
قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ ﴾ حظٌّ ﴿ مِمَّا كَسَبُوا ﴾ من الخير والدعاء بالثواب والجزاء، ﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ يعني: إذا حاسَب عبده، فحسابُه سريع لا يحتاج إلى عقد يد، ولا وعيِ صدور، ولا إلى رويَّة ولا فكر، قال الحسن: أسرع من لمح البصر، وقيل: معناه: إتيان القيامة قريب؛ لأن ما هو آتٍ لا محالةَ فهو قريب.
قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ يعني التكبيرات أدبار الصلاة وعند الجمرات، يكبِّرُ مع كل حصاة وغيرها من الأوقات، ﴿ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ الأيام المعدودات هي أيامُ التشريق، وهي أيام منًى ورَمْي الجمار، سُمِّيت معدودات لقلتهن؛ كقوله: ﴿ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾ [يوسف: 20]، والأيام المعلومات: عشر ذي الحجة، آخرهن يوم النحر، هذا قول أكثر أهل العلم، والتكبيرُ أدبارَ الصلاة مشروعٌ في هذه الأيام في حق الحاج وغير الحاج عند عامة العلماء، ﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة: 203]، أراد من نفر الحاج في اليوم الثاني من أيام التشريق، فلا إثم عليه؛ وذلك أنه على الحاج أن يبيت بمنًى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق، ويرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاةً، عند كل جمرة بسبع حصيات، ورخَّص في ترك البيتوتة لرعاة الإبل وأهل سقاية الحاج، ثم كل من يرمي اليوم الثاني من أيام التشريق وأراد أن ينفر ويدع البيتوتة الليلة الثالثة، ورمى يومها، فذلك له واسع؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة: 203]، ومن لم ينفِرْ حتى غربت الشمس فعليه أن يبيت حتى يرمي اليوم الثالث، ثم ينفر، وقوله: ﴿ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة: 203]، يعني: لا إثم على من تعجَّل فنفر في اليوم الثاني في تعجيله، ومن تأخَّر حتى ينفر في اليوم الثالث فلا إثم عليه في تأخيره، وقيل: معناه: فمن تعجل فقد ترخص فلا إثم عليه بالترخص، ومن تأخر فلا إثم عليه بترك الترخص، وقيل: معناه: رجع مغفورًا له، لا ذنب عليه، تعجل أو تأخر، ﴿ لِمَنِ اتَّقَى ﴾ أي: لمن اتقى أن يصيب في حجه شيئًا نهاه الله عنها؛ كما قال: (من حج فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ).
قال ابن مسعود: إنما جُعلت مغفرة الذنوب لمن اتقى الله تعالى في حجه، وفي رواية الكلبي عن ابن عباس معناه: لمن اتقى الصيد، لا يحل له أن يقتل صيدًا حتى تنقضي أيام التشريق، وقال أبو العاليةِ: ذهب أئمة أنَّ " اتقى " فيما بقِي من عمره، ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203]، تُجمعون في الآخرة يجزيكم بأعمالكم؛ مختصر تفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل (1 /72- 77).
الخلاصة:
• يجب تعيين نوع النسك بالنية، ويذكر النسك في التلبية، وله أن يشترط؛ فمثلاً المفرد يقول: (لبيك اللهم حجًّا، فإن حبسني حابس فمحِلي حيث حبستني).
ومناسك الحج ثلاثة:
1- التمتع، وهو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، وبعد أن يتم عمرته يتحلل من إحرامه ويبقى حلالاً حتى يحرم بالحج، وعليه أن يذبح ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام.
2- القِران، وهو أن يحرم بالحج والعمرة معًا، ويبقى على إحرامه حتى يفرغ من أفعال الحج، وعليه طواف وسعي واحد، وعليه أن يذبح ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد فصيام عشَرة أيام.
3- الإفراد، وهو أن يُحرِم بالحج فقط، وعليه أن يبقى على إحرامه حتى يفرغ من أفعال الحج، وليس عليه هديٌ.
• أن الاحصار يكون بحبس العدو، والمحصر يتحلل بذبح شاة وحلق الرأس، فإن لم يجد هديًا صام عشرة أيام ثم حل.
• أعمال الحج باختصار: يوم الثامن الإحرام بالحج والبقاء في منى، يوم التاسع الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، ليلة العاشر المبيت بمزدلفة، اليوم العاشر الذهاب إلى منًى والقيام بأعمال يوم النحر (1- رمي جمرة العقبة، 2- ذبح الهدي، 3- الحلق أو التقصير، 4- طواف الإفاضة، 5-السعي)، أيام التشريق المبيت بمنًى لياليَ أيام التشريق، رمي الجمار الثلاث، كل واحدة بسبع حصيات، طواف الوداع قبل الخروج من مكة.
• المبيت بمنًى واجبٌ عند الجمهور، وسنَّة عند الأحناف، والواجب بالمبيت بمنى، جنس المبيت، فلو بات الحاج ليلة واحدة فقد أدى المبيت، وعليه في بقية الليالي الإطعام.
• حتى يكون حجُّك مقبولاً وسعيك مشكورًا، فإنه يلزمك أن يكون حجك للبيت إيمانًا واحتسابًا، ومعنى إيمانًا: أي إن عبادةَ الحج قد خرجت من قلبٍ معظِّم لله تعالى، امتلأ قلبه محبة لربه تعالى، يقوم بأعمال الحج لوجه الله تعالى لا يريد ثناءً أو شكورًا من أحد، فقط يريد رضا الله تعالى، قابل راضٍ عن هذه العبادة، لا يصدر منه تأفُّف أو تذمُّر من عبادة الحج، بل يكون منشرحَ البال، سعيدًا بتوفيق الله له.
أما احتسابًا: فهذا الحاج قد وضع أمام عينه حديث نبيه: (الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)، وحديث: (مَن حجَّ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ رجَع كيومَ ولدته أمه)، فهو يريد جنة ربه، ويريد مغفرة الذنوب جميعها، وهذه المعاني لا يشعر بها إلا أهلُ التوحيد المعظِّمون لله عز وجل.
مختارات