أنماط: (49) نمط الممتحِن
ومن الأنماط أيضًا نمط الأخ الممتحِن..
هذا النمط يمتلك نفسية تشبه نفسية المعتزلة الذين قرَّروا امتحان الناس على قولهم بأن القرآن مخلوق فإما أن تقول بقولهم وإما نصل السيف على رقبتك..!
واخترت التشبيه بتلك الواقعة التاريخية -تحديدًا- لأن أحد أهم الفوارق بين تلك المعركة وغيرها من المعارك الفلسفية والكلامية في التاريخ الإنساني عمومَا والإسلامي خصوصًا - أن أصحاب ذلك الرأي قرَّروا فرضه على الناس..
بل وقرَّروا امتحان الخلق عليه!
وهذا هو ما نقل تلك المسألة من بطون الكتب وقاعات التناظر إلى خنادق الفتن وأقبية السجون، وحوَّل أدوات الصراع فيها من لسانٍ ومحبرة إلى سوطٍ وسيف..
اليوم نلحظ واقعًا شبيهًا يمتحن فيه الناس أيضًا لمعرفة رؤاهم أو خياراتهم ثم إسقاطهم أو رفعهم على أساس مواقفتها للمتحنين أو مخالفتها؛ بل يصل الأمر إلى الامتحان على أشخاص بأعينهم والرأي فيهم وربما يكفي الأخ الممتحن إن كان من محبيهم بكونك لم تذكرهم بإجلال فيسقطك أو يكتفي ممتحن آخر بكونك لم تذكر من يكرههم بسبابٍ كافٍ فيسقطك..
ربما لا يملك نمط الممتحِنين الجدد سيوفًا يضعونها على رقاب الناس ليقولوا بقولهم كما تيسّر للمتحِنين القدامى لكنهم يملكون ألسنًا وأقلامًا أحدَّ من السيوف يُمزِّقون بها سمعة من يُخالف آراءهم واختياراتهم ومواقفهم..
وبدلًا من أن تتناثر دماء المخالفين، فإن أعراضهم وكرامتهم هي التي تتناثر مختلطة برذاذ الاتهامات بالعمالة تارةً والخيانة تارةً أخرى والتفريط أو الغلو تارات وتارت، فيُقتل المخالفون معنويًا إن لم يتم قتلهم واقعيًا كما حدث أيام تلك الفتنة..
إن تحوُّل الخلاف والنزاع إلى امتحان يخضع فيه الخلق إلى نموذج إجابة يُحدِّده مخلوق مثلهم هو أمرٌ في غاية الخطورة في ذاته، وفكرة لا يعرفها الإسلام ولا يُقرِّها، ولم نعرف في صحيح ديننا الأمر بإقامة محاكم تفتيش للإمساك بالمخالفين والتنكيل بهم..!
لكن للأسف يبدو أن ممتحِنًا خفيًا يقبع في أعماق هذا النمط، وينتظر أول خلاف لرأيه ليتضخم ويتعاظم ثم يمتحِن الناس على رأيه، ويقيمهم على حسب رضوخهم لخياره..
وما دام أمثال هؤلاء ينظرون دومًا إلى اجتهادهم على أنه الحقيقة المطلقة، الذي ينبغي للجميع أن يُهلِّلوا لها ويُردِّدوا صداها ويخضعوا لها بحذافيرها وبشكلٍ كامل التطابق مع خيارهم ورؤيتهم، فسيستحيل عليهم يومًا أن يتقبلوا حقيقة أن مخالفهم ربما يكون شريفًا مريدًا للحق..
وطالما لم نُحدِّد خطوطًا فاصلة بين الثوابت التي يوالَى ويعادى عليها، وبين المتغيرات الأكثر مرونة، فسيظل الحال على ما هو عليه..
بل ولربما يسوء ويصل في مرحلةٍ ما إلى واقع شبيه بفتنة خلق القرآن..
لم يعد هناك مناصٌ من حتمية ترسيم تلك الحدود الفاصلة بين الثابت المحكم والمتغير النسبي، وما يحاسب عليه المرء وما لا يحق لأحدٍ سؤاله عنه وإلا صِرنا إلى الأبد أسرى لثقافة الامتحان على الرأي، ولصار لدينا في كل يوم فتنة خلق قرآن جديدة..
لكن ينبغي على العقلاء قبل كل شيء أن يُحطِّموا أسوار لجان امتحانات الرأي المنصوبة لهم من المخلوقين، ويُعلِنوا أن مبدأ الابتزاز والمساومة على المواقف مرفوضٌ تمامًا، وأن الابتلاء والاختبار إنما يكون من الخالق وحده. وأنهم ليسوا بحاجةٍ إلى درجات مُمتحِنيهم ولا نياشين وأوسمة مبتزيهم..
وليُسمِّها أهل هذا النمط جلية واضحة: ألا كفاكم امتحانًا للناس..!
مختارات