أنماط: (8) نمط البصمجي
وهناك نمط مهم للغاية وينبغي تأمله جيدًا ألا وهو نمط البصمجي أو الموقع على بياض!
تستعمل هذه العبارة دومًا عند الإشارة لفكرة الثقة المطلقة، وتسليم القيادة بشكل كامل لفئة أو لشخص معين، لدرجة تجعل المرء يقرر بكل أريحية أن يبصم على أي ورقة يعطيه إياها، أو إن كان من أهل القراءة والكتابة يوقع له على بياض بدون تحديد لمبلغ معين كعطية، أو اتفاق على شروط تعاقد محددة وواضحة تلزمه بأمور يمكن بعد ذلك محاسبته عليها، فقط الثقة الكاملة والتسليم المطلق دون قيد أو شرط.
لا شك أن هذه الفكرة تم استهلاكها كثيرًا في الأعمال الدرامية والأدبية، حيث يأمن البطل أو البطلة إنسانَا ما فيوقع له على بياض أو يحرر له توكيلاً عامًا بالتصرف في كل أملاكه ثم يفاجأ أن الشخص لم يكن على قدر الثقة ولكن بعد فوات الأوان
هنا لا يلام ابتداءً إلا من قبل ذلك، لا يلام ابتداءً إلا من قرر أن يقامر بما يملك لأجل ثقة مطلقة في مخلوق ضعيف غير معصوم، قد يستغل ثقته أسوأ استغلال، وحينئذ لن يكون للندم معنى حين يصطدم بصخرة سذاجته السابقة، التي جعلته ينقاد دون بصيرة ويتبع بعمى، ولقد صدق من قال: " حبك للشيء يعمي ويصم ".
إن فكرة البصم المستمر والتوقيع على بياض، وإعطاء صكوك الثقة المطلقة التي تجعل كل اعتراض أو نقد أو اختلاف معرضًا لقائمة التهم المعتادة، بدءًا من عدم الفهم إلى الحقد إلى سوء الأدب وأحيانًا العمالة، هي ببساطة فكرة ممجوجة مرفوضة لدى أي شخص يحترم عقله بل ويحترم نفسه..
وإن كانت مقبولة لدى البعض ممن يرتضون ذلك التوقيع على بياض وإعطاء الثقة المطلقة والبصم بالعشرة أصابع لأشخاص غير معصومين، لدرجة تجعلهم يرون الحكمة والعظمة والإبداع في كل لفظ وخيار ورأي يصدر منهم وإن بدى ظاهره غريبًا أو خاطئًا، فليس من حق هؤلاء أبدًا أن يحجروا على رأي من يرفضون ذلك ويصرون على حقهم الطبيعي في الفهم والاشتراط والاختلاف، والاستمتاع بحقيقة أن ربهم قد خلقهم ربهم أحرارًا ومن عليهم بنعمة العقل والاستقلال..
وإن العقل الحر بطبيعته يرفض الاستخفاف به أو تغييبه من خلال سدنة، طالما تشدقوا بشعارات اتباع الحق وليس الرجال، وطالما رددوا أقوال تذم التمذهب المتعصب، ثم كانوا أول من تنكر لتلك الشعارات البراقة حين وضعوا في موضع التصدر، ووجدوا من يتعصب لهم ويبصم من خلفهم، اليوم يلام من صدق تلك الشعارات التي ظلت تتلى على مسامعه حتى صدقها، حتى ارتطم رأسه بواقع حزين يضعه بين خيارين: إما أن يرمى بأنه سيىء الأدب لا ينزل الناس منازلهم، بل هو من أعداء الوطن والطابور الخامس والسادس والعاشر، وسائر التهم المعلبة والجاهزة..
وإما أن يقدس المتبوعين تمام التقديس، وأن يطبل لهم مع المطبلين ويبصم ويوقع مع البصمجية والموقعين محتفيا بكل مواقف المتبوعين وداعما كل قراراتهم وموقعا لهم صكا دائما بالثقة و(شيك) على بياض يقر من خلاله أن السادة والكبراء يستحيل أن يخطئوا، ولئن بدا يومًا لكل عين أنهم مخطئون فلتكذب عينك ولترح عقلك ولتقل: " أكيد لهم مأرب ومقصد عظيم لم أستطع بعقلى المسكين إدراكه، لكن يخطئون كالبشر؟! معاذ الله
يكفي هؤلاء في النهاية أن يأمرهم سادتهم وكبراؤهم فيوقعون لهم على بياض، وكأنما لا يأتيهم باطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، وكأنما أمنت عليهم الفتنة وعصموا من الزلل والضلال فكانوا بين أيديهم كالميت بين يدي مغسله، ولئن سألتهم ونصحتهم وذكرتهم أن تلك الكهانة ليست في ديننا ولا عرفنا لأبرزوا في وجهك صكوك الثقة، ولأسكتوك بالكلمات المعتادة: معقول إنت هتفهم أكثر منهم؟! معقول هتعمل رأسك برأسهم وتجرؤ على مخالفتهم؟!
والحقيقة أن ثمة فارق كبير للغاية بين أن يتبع على بصيرة ويقتدي بعلم وفهم، وبين أن يتحول إلى إنسان آلي أو (روبوت) ينفذ ما يقال له ربما حتى قبل أن يعرف ما سيقال له ببساطة هو الفارق بين قيمة الاقتداء وبين المسخ.
إن اقتداءك بغير معصوم لا يعني أن تُمحى شخصيتك أو أن تزول ذاتك، فتتحول إلى ظل له أو إلى نسخة طبق الأصل منه، أو آلة تعمل بأوامره، إن تمثلك بالقدوة الحسنة يفترض أن يكملك ولا يمحوك، ويصقلك ولا يزيل خصائصك، لقد خلقك الله مختلفًا ولو شاء لجعل الناس جميعًا نسخًا متطابقة، لكنه أبدع فيك خصائص ومواهب متفردة، وبيَّن لك كيف تضبطها بالقدوة الحسنة والتزام صراط الصالحين، لكن في النهاية عليك أن تكون نفسك ولا تكونن من المتكلفين.
وحين يطلب منك أن توقع على شيء فعليك ألا توقع أبدًا على بياض، واحرص دومًا إن كنت متبعًا على أن يكون اتباعك على بصيرة وعلم بما أنت مقبل عليه.
مختارات