كيف نتواصى فيما بيننا (2)
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، اصطفاه الله وأرسله رحمة للعالمين، بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، وداعياً إلى لله بإذنه وسراجاً منيراً، فصلى الله عليه وعلى آله وذريته الطيبين وزوجاته وخلفائه الميامين، أشهد أنه رسول الله حقاً، والداعي إلى سبيله صدقاً، صلى الله عليه وعلى أصحابه أجمعين إلى يوم الدين.
من وصايا السلف لبعضهم
عباد الله
الناس في الفتنة يحتاجون إلى وصية، والفتن أنواع، ولما هاجت فتنة بالكوفة اجتمع قراؤها؛ ليكتبوا كتاباً، فدعوا حافظ أهل الكوفة سليمان بن مهران الأعمش، فتكلم بثلاث كلمات، فاستغنوا بهن عن الكتاب،-وكانت مقتلة تحصل بين المسلمين- قال لهم: " رحم الله امرأً ملك لسانه، وكف يده، وعالج ما في صدره ". انتهت.
كتب إبراهيم بن أدهم إلى بعض إخوانه: " عليك بتقوى الله الذي لا تحل معصيته، ولا يرجى غيره، واتق الله، فإن من اتقى الله عز وقوي، وشبع وروي، ورفع عقله عن الدنيا ".
وهكذا كانت الوصايا فيما بينهم بأمور الأخلاق، والآداب، والسلوك.
وكان بعضهم يقول لبعض: يا أخي إنما دينك لحمك ودمك، ابك على نفسك وارحمها، وليكن جليسك من يزهدك في الدنيا، ويرغبك في الآخرة، وأكثر ذكر الموت، واستغفر مما قد سلف من ذنوبك، وأسأل الله السلامة لما بقي من عمرك، وإياك أن تخون مؤمناً، فمن خان مؤمناً فقد خان الله ورسوله، وإذا أحببت أخاك في الله فابذل له نفسك ومالك، وعليك بالصبر في المواطن كلها، فإن الصبر يجر إلى الجنة، وإياك والحدة والغضب فإنهما يجران إلى الفجور، والفجور يجر إلى النار، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر تكن حبيب الله، وابغض الفاسقين تطرد الشياطين، واعمل لآخرتك يكفك الله أمر دنياك، وأحسن سريرتك يحسن الله علانيتك، وابك على خطيئتك تكن من أهل الرفيق الأعلى، وعليك بالتؤدة، وإذا هممت بأمر من أمور الآخرة فشمر إليها وأسرع ".
قالت أعرابية توصي ولدها المسافر -وما أحوجنا لبعض الوصايا للمبتعثين-، أوصت أعرابية ولدها الذي خرج مسافراً: " أي بني اجلس أمنحك وصيتي، وبالله توفيقك، فإن الوصية أجدى عليك من كثير من عقلك، إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة، وتفرّق بين المحبين، وإياك والجود بدينك والبخل بمالك. الإنسان يمسك دينه لا يفرط منه بشيء، وأما المال يبذله. واعلم أن المرء لا يرى عيب نفسه، فما استحسنت من غيرك فاعمل به، وما استقبحت من غيرك فاجتنبه، والغدر أقبح ما تعامل به الناس، ومن جمع الحلم والسخاء فقد أجاد الحلة ".
ماذا يحتاج المبتعثون اليوم من الوصايا؟ لا بد أن نفكر جوانب الوصايا التي يحتاجها الناس في المجتمع، هناك متزوجون يحتاجون إلى وصايا، مسافرون يحتاجون إلى وصايا، واحد سينتقل من سلك الدراسة إلى سلك الوظيفة يحتاج إلى وصايا، حتى الإنسان وهو يغالب أموراً كثيرة من المعاناة صارت له مصيبة، مرض، يحتاج إلى وصايا، قضية الوصية هذه لا بد أن تكون حاضرة، وفكِّر ماذا ينفعك؟ ربما يثبت هذا المبتعث أو المسافر عن الحرام، وما أكثره في الأماكن التي يسافر إليها، كلمة قالتها له أمه قبل أن يترك ويغادر، إلا الحرام، إلا الفاحشة، إلا المرأة بالحرام، انتبه، إياك، فتكون هذه الكلمات على بساطتها وقلتها هي العاصم بعد الله من الوقوع في الموبقات.
من وصايا السلف لبعضهم الإخلاص، وتصحيح النية، وهذا كثير؛ لأن النية تشوبها شوائب، الوصية مثلاً بتعلم علومالشريعة، وما أحوج الناس إليها.
يقول علي بن أبي طالب للكميل بن زياد: يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل، يزيد العلم إذا عملت به، والمال تنقصه النفقة، يا كميل، محبة العالم دين يدان به، العلم يكسب العالم الطاعة لربه، وجميل الأحدوثة بعد وفاته -سيرته حسنة تبقى بين الناس-، وصنيعة المال تزول بزواله، والعلم حاكم -العلم يحكم في المال، في المواريث مثلاً، الوصايا، لكن المال ما يحكم في العلم-، يا كميل، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، بسيرتهم ومؤلفاتهم باقون.
كان من الوصايا الوصية بحفظ الوقت، لا تكن مضيعاً أنفاساً معدودة، وأعماراً محسوبة؛ لأن قضية حفظ الوقت هذه محافظة على رأس المال، الوصية بالتمسك بالسنة، واجتناب البدع، الوصية عند فساد الزمان، بماذا يستمسك به الإخوان ويعتصمون؟.
وكذلك من الوصايا الجميلة ما حدث بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، كانا متآخيين في المدينة، آخى بينهم النبي عليه الصلاة والسلام. في الفتوحات سكن أبو الدرداء الشام يعلم الناس، وسكن سلمان الكوفة يعلم الناس، كتب أبو الدرداء إلى سلمان: سلام عليك أما بعد: فإن الله رزقني بعدك مالاً وولداً، ونزلت الأرض المقدسة، فهلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسان عمله، واعلم أن الخير ليس بكثرة المال والولد، ولكن الخير أن يعظم حلمك، وأن ينفعك علمك، اعمل كأنك ترى، واعدد نفسك في الموتى.
نظراً لكثرة الفتن الآن، فتنة الشهوات، وفتنة النساء، الناس يحتاجون إلى وصايا بهذا، الرجال يحتاجون إلى وصايا، والنساء يحتجن إلى وصايا.
ولذلك أوصى عمر بن عبد العزيز ميمون بن مهران فقال له: " إني أوصيك بوصية فاحفظها: إياك أن تخلو بامرأة غير ذات محرم، وإن حدثتك نفسك أنك تعلمها القرآن "، لا تخلو بامرأة وإن كنت تعلمها القرآن.
الوصية قد تغير مسار الحياة ونماذج من ذلك
أحياناً تكون الوصية مما يجعل الإنسان حراً في مواقفه، هذا عبد الحميد بن باديس -عالم الجزائر في وقته-، قال: وإني لأذكر للشيخ حمدان لونيسي وصية أوصاني بها، وعهداً عهد به إلي، أذكر أثره على نفسي ومستقبلي وحياتي وتاريخي كله، فأجد نفسي مديناً لهذا الرجل إدانة بمنة لا يقوم بها الشكر، فقد أوصاني وشدد علي: ألا أقرب الوظيفة، ولا أرضاها ما حييت، ولا أتخذ علمي مطية لها، هذا مهم بالنسبة للعلماء في حرية صدعهم بالحق، وقال: وأذكر للشيخ محمد النخلي كلمة لا يقل أثرها في ناحيتي العملية عن تلك الوصية، كنت متبرماً من أساليب بعض الكتاب أو المصنفين في التأويلات الجدلية والفلسفية، فقال: اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، يسقط الساقط ويبقى الصحيح، قال: فنفعتني هذه الوصية.
وهكذا عماد الدين الواسطي كثرت عليه قضية علم الكلام والفلسفة، فلقي شيخ الإسلام ابن تيمية فأوصاه بوصية قال: عليك بقراءة السنة النبوية، فإنها الوصفة الكافية الشافية.
محمد بن عوف -أبوه عالم- لكن الابن لاعب كرة وهو صغير، فالكرة سقطت في المسجد بالقرب من المعافا بن عمران، قال: فدخلت لآخذها فقال: ابن من أنت؟ قلت: ابن عوف بن سفيان، قال: إن أباك كان من إخواننا، ويكتب معنا الحديث والعلم، والذي يشبهك أن تتبع ما كان عليه أبوك، قال: فصرت إلى أمي فأخبرتها، قالت: صدق، هو صديق لأبيك، فألبستني ثوباً وإزاراً، ثم بعثتني إليه، فصار يطلب عنده العلم.
جملة واحدة تغير المسار يا عباد الله، ولا بد من الوصية بالزهد في الدنيا
ولو تبصر الدنيا وراء ستورها *** رأيت خيالا في منام سيصرم
كحلم بطيف زار في النوم وانقضى *** المنام وراح الطيف والصب مغرم
وظل أتته الشمس عند طلوعها *** سيقلص في وقت الزوال ويفصم
ومزنة صيف طاب منها مقيلها *** فولت سريعا والحرور تضرم
ومطعم ضيف لذ منه مساغه *** وبعد قليل حاله تلك تعلم
كذا هذه الدنيا كأحلام نائم *** ومن بعدها دار البقاء ستقدم
فجزها ممرا لا مقرا وكن بها *** غريبا تعش بها حميدا وتسلم
أو ابن سبيلٍ قال في ظل دوحة *** وراح وخلا ظلها يتقسم
فيا عجبا كم مصرع وعظت به *** بنيها ولكن عن مصارعها عموا
نعم يموت الأموات ويذهبون ولكن الاتعاظ قليل.
وكما أن هناك وصايا طيبة فهناك وصايا ضارة ومحرمة:
(وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (نوح:23).
(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) (صّ:6).
وقال الله عن المشركين:
(كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ.أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (الذريات:52- 53).
وهكذا يوصي أولهم آخرهم بالشر والكفران، وهكذا تجد اليوم أهل الشر والفساد يوصي بعضهم إلى بعض باستمرار المسيرة، أي مسيرة؟!.
اللهم إنا نسألك الثبات حتى الممات،والحمد لله رب العالمين.
مختارات