(وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا)
الذي تتكلم به هذه الآية في صدري والعلم عند الله:
التوكل على رب العالمين والثقة به والطمع في كرمه، وتحلي القلب حِلية السكينة فلا تضطرب به المخاوف ثقةً واكتفاءً بالله تعالى..
ثم إن التسبيح بحمده هنا يلوح لي فيه أمور:
أن استقامة القلب على صراط التوكل لا تكون إلا بزادٍ من الذكر؛ فالذاكر ظافرٌ بالمعية، سالمٌ من جلبة الوساوس، نقيٌّ من قَتَرةِ اليأس.
وما شحب في قلبٍ يقين إلا بغيبته عن نور الذكر؛ لأن الغفلة وحشةٌ تدع الإنسان مفردًا في دروب الحياة، بعيدًا عن ربه، عاريًا هشًّا بين يدي رياح الإرجاف والخوف بوسواسها الذي ينهش القلب نهشًا..
بينما يجلس الذاكر ويغدو ويروح في كنف المعية، وظلال الحفظ والكفاية " ألا بذكر الله تطمئن القلوب "..
ومَن ذكر الله تعالى= ذكرَه الله تعالى؛ فيكون أوفر حظًّا من رزقه وبركته وحفظه ومعيته وتسديده وكلاءته..
ثم إن الخلق يُرزقون بـ " سبحان الله وبحمده " كما في وصاة سيدنا نوح عليه السلام التي أخبرنا عنها نبينا صلى الله عليه وسلم:
" إن نبي الله نوحًا صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة قال لابنه: إني قاصٌّ عليك الوصية:
آمرك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين.
آمرك بـ " لا إله إلا الله " ؛ فإن السموات السبع، والأرضين السبع، لو وُضعت في كفة، ووُضعت " لا إله إلا الله " في كفة، رجحت بهن لا إله إلا الله!
ولو أن السموات السبع، والأرضين السبع كنّ حلقةً مبهمةً
قصمتهن لا إله إلا الله!
و " سبحان الله وبحمده " ؛ فإنها صلاة كل شيء، وبها يُرزق الخلق!
وأنهاك عن الشرك والكبر "
قال: قلت أو قيل: يا رسول الله: هذا الشرك قد عرفناه، فما الكِبر؟
قال: الكِبْرُ أنْ يكون لأحدنا نعلانِ حسنتان لهما شراكان حسنان.
قال: " لا ".
قال: هو أن يكون لأحدنا حُلَّةٌ يلبسها؟ قال: " لا ".
قال: الكِبر هو أن يكون لأحدنا دابة يركبها؟
قال: " لا ".
قال: أفهو أن يكون لأحدنا أصحاب يجلسون إليه؟
قال: " لا ".
قيل: يا رسول الله، فما الكِبْرُ؟ قال: " سََفهُ الحق، وغَمْصُ الناس ".
وفي تذييل الآية بقوله تعالى وكفى به بذنوب عباده خبيرا في سياقة الأمر بالتوكل فتشت فلم أظفر بشيء ذي بال عن علاقة صدر الآية " الآمر بالتوكل " بختامها " المخبر بعلم الله المحيط بذنوب عباده.
أدار سادتنا من المفسرين رضي الله عنهم المعنى فيها على أنها تهديد ووعيد لاسيما للمشركين، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له من أمر الناس شيء آمنوا أو كفروا..
ولم أجد برد اليقين في كشف هذا السر عن علاقة صدر الآية بختامها، والذي تهمس به النفس:
أن العبد في توكله قد يركن إلى عمله، فيتسع صدره بالتوكل عند الطاعة، وقد تُهْرَع دسيسة سوء ظن تخدش بهاء يقينه وتوكله عند حضور الذنب، فلا يقوم في قلبه مشهد التوكل، فأمره الله بالتوكل عليه؛ فإن التوكل ليس للمعصومين، بل هو يعلم أن لابد للعبد من ذنب، وأنه لا ملجأ ولا ملجأ للفقير إلا سيده وبارئه، وأن الذي أمره بالتوكل عليه خبيرٌ بذنبه يبصره ويعلمه، فلا يحجبنَّه ذنبه عن قصد ربه، ولا يعجبن بعمله فيحسب أن له عند ربه حقًّا..بل هو عبد فقير نعْتُه الذنب!
فهي خوف ورجاء:
خوف:أن لا تركن إلى عملك؛ فربك أعلم بذنبك!
ورجاء: أن تحسن الظن في ربك فلا يقعد بك الذنب عن التوكل عليه؛ فهو أعلم بك منك!
والله أعلم
مختارات