(خطبة اليوم.. وموضوعها الغفلة)
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ لَا یَرۡجُونَ لِقَاۤءَنَا وَرَضُوا۟ بِٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَٱطۡمَأَنُّوا۟ بِهَا وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَنۡ ءَایَـٰتِنَا غَـٰفِلُونَ ٧ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡسِبُونَ ٨﴾
حديثُنا اليومَ عنِ الغفلةِ التي ذمَّها اللهُ في كتابِه، عن معناها وخطرِها وسبيلِ النجاةِ منها.
فمُلخَّصُ أقوالِ العلماءِ في تعريفِ الغفلة: أنَّها سهوُ الإنسانِ وترْكُهُ التيقظَ والانتباهَ للأمورِ العظامِ الجديرةِ بالعنايةِ والاهتمام.
فالغافلُ هو الذي يسهو ويُهمِلُ شيئًا مهمًّا لا يليقُ إهمالُهُ مع قدرتِه على التيقظ.
والغافلُ شرعًا: هو الذي أهملَ الأمرَ الذي خُلِقَ من أجلِه، وهو إقامةُ العبوديةِ لربِّه، واشتغلَ عنها.
فكلُّ ما لا يُحقِّقُ هذه الغايةَ، فهو غفلةٌ.
قال تعالى:
﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾
والمعنى حذرهم يارسول الله ذلك اليوم الذي تكثر فيه الحسرات حتى صارت عنوانا واسما له وكأنه ليس فيها إلا ندم النادمين وتأسفهم.
إذ قضي الأمر يعني حين ينتهي كل شيء لا عمل لا توبة لا تغيير
تأمَّلوا كيفَ ارتبطَتِ الحسرةُ والندامةُ بالغفلة.
وهذا واضحٌ في الدنيا، فإنَّ الناسَ يتحسرون مثلا على غفلتِهم عنِ الصفقاتِ الرابحة، أو شراءِ العقاراتِ أيامَ رخصِها، ويلومون أنفسَهم، وتشتدُّ حسراتُهم حينَ يرونَ الملايينَ مع أقرانِهم الذي اشتروا.
وهي دنيا تزولُ عنِ الرابحينَ والخاسرينَ سواءً بسواء.
فكيفَ بحسرةِ الغافلينَ عنِ الآخرةِ، الذين غفلوا في مواسمِ العملِ، حينَ يرَونَ أرباحَ المصلينَ، والصائمينَ، والمتصدِّقينَ، والذاكرينَ، والتالينَ، والمحسنينَ، والصابرينَ، والصادقينَ، والمتقينَ، والتاركينَ للمعاصي، وهم قد كانوا مشغولينَ باللهوِ، والبطالةِ، والسرابِ، وزيفِ الملذَّاتِ الخادعةِ، والضياع.
كيفَ بحسرتِهم، وقد رأوا النعيمَ والدرجاتِ، والذِّكرَ الحسنَ، والرِّفعةَ، والكرامةَ، والترحيبَ، والسلامَ، ومواكب الطائعين وملك الصالحين والإجلالَ لأولياءِ الله، وقد ذهبتْ عنهم وجاهاتُ الدنيا وزيفُها.
وأعظمُ الناسِ حسرةً: الكفارُ، والمشركونَ، والمنافقون، إذ كانت غفلتُهم تامةً في الدنيا، فحسرتُهم تامةٌ في الآخرة.
ثمَّ دونَهم أهلُ الذنوبِ والغفلةِ منَ الموحِّدين.
ثمَّ دونَهم المقصِّرونَ في النوافلِ.
فهم درجاتٌ بحسبِ تفريطِهم وغفلتِهم.
أَمَا والله لَوْ عَلِمَ الأنَامُ.
.
لِمَا خُلِقُوا لَمَا هَجَعُوا ونَامُوا
لَقَدْ خُلِقُوا لأَمْرٍ لَوْ رَأَتْهُ.
.
عُيُون قُلُوبِهِمْ تَاهُوا وَهَامُوا
مَمَاتٌ ثُمَّ قَبْرٌ ثُمَّ حَشْرٌ.
.
وتَوْبِيخُ وأَهْوَالٌ عِظَامُ
لِيَوْمِ الحَشْرِ قَدْ عَمِلَتْ رِجَالٌ.
.
فَصَلَّوا مِنْ مَخَافَتِهِ وصَامُوا
قال تعالى:
﴿ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ﴾
فإذا كانتِ الغفلةُ عن الأمرِ العظيمِ مصيبةً، فأعظمُ منها خطرًا: الغفلةُ مع قربِ الأمرِ الخطير!
"اقتربَ للناسِ حسابُهم وهم في غفلة.
"
يا للعجبِ منهم! مع اقتراب حسابهم غافلون
إذا كان النومُ في الأوديةِ المسيلةِ غفلةً وحُمقًا، فكيفَ بمن نام فيها وقد انعقدَ الغمامُ، وبرقتِ السماءُ، وأرعدت؟
كيفَ وقد شابتِ الرؤوسُ، ووهنتِ العظامُ؟
وفي الآيةِ: أنَّ أعظمَ الغفلاتِ التشاغلُ عن ساعةِ الحسابِ والسؤالِ والجوابِ.
تمرُّ الأيامُ والليالي، والعبدُ لا يفكرُ فيها.
كأنما ما يفعلُهُ، ويقولُهُ، ويراهُ، ويسمعُهُ في الليلِ والنهارِ يذهبُ سُدىً بلا سؤالٍ ولا جواب.
قال عزَّ وجلَّ:
﴿وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍۢ مَّعَهَا سَآىِٕقٌۭ وَشَهِيدٌۭ ﴿٢١﴾ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍۢ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌۭ ﴾
في غفلةٍ: أي غارقٌ فيها، قد أحاطتْ به من كلِّ جانب.
"فكشفنا عنكَ غطاءَك فبصرُك اليومَ حديد.
"
ذهبتِ الغفلة، وانكشفتِ الغشاوة، لكنها متأخرة.
﴿فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ﴾: أي اليومَ فقط، أما في الدنيا، فلم يكنْ بصركَ حادًّا، فلم ترَ العاقبة.
وكان في وسعِك أن تُزيلَ الغشاوةَ، وتُبصرَ الحقيقةَ، وتنتبهَ، وتستيقظَ، وتعملَ، وتتوبَ، وتُحسنَ، وتوقنَ أنَّ هذا الذي تراهُ الآنَ هو ما أخبرَ اللهُ به ورسولُه، لو لم تكنْ غافلًا.
لقد كنتَ في غفلة.
.
قال تعالى:
﴿وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِى نَفْسِكَ تَضَرُّعًۭا وَخِيفَةًۭ وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوِّ وَٱلْءَاصَالِ ۖ وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلْغَٰفِلِينَ﴾
وفي الآيةِ أنَّ أعظمَ أسبابِ النجاةِ منَ الغفلةِ: مداومةُ الذكر.
فمن غفلَ لسانُه، غفلَ قلبُه.
كما دل القرآن على من أسباب الغفلة طاعة الغافلين وصحبتهم فنهى الله عن ذلك
قال سبحانه:
﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُۥ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُۥ فُرُطًا﴾وقد دلَّ القرآنُ على أسبابِ الغفلةِ، ومنها: تعطيلُ الجوارحِ عن وظائفِها.
فالقلوبُ، والأعينُ، والآذانُ خُلِقَت لطاعةِ الله، لعبادتِه وذِكرِه.
فالقلوبُ الغافلةُ: هي المشغولةُ بغيرِ ربِّها
والعيونُ التي لا تتفكَّرُ في آياتِ الله: لا تُبصِر.
والآذانُ التي لا تسمعُ مواعظَ اللهِ ورسولِه: آذانٌ صُمٌّ.
قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًۭا مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌۭ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌۭ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌۭ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ كَٱلْأَنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْغَٰفِلُونَ﴾
ويقول سبحانه
وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ ٦ یَعۡلَمُونَ ظَـٰهِرࣰا مِّنَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ غَـٰفِلُونَ
من أعظم أسباب الغفلة
وهم الإنسان أن علمه بالدنيا يكفيه
فتغره شهادته أو خبرته أو منصبه أو إتقانه لأمر دنيوي فتتعاظم نفسه ويعرض عن علم الآخرة
عن عبد الله بن عباس -من طريق عكرمة- ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾: يعني: معايشهم؛ متى يغرسون، ومتى يزرعون، ومتى يحصدون.
وكل ذلك لا حرج فيه
لكن المذموم أنهم ليسوا في أمر الآخرة كذلك
فهم مع حذقهم بدنياهم جهلة بأمر آخرتهم
قال الحسن البصري، قال: ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ لَيَبْلُغُ مِن حِذْقِ أحدهم بأمرِ دُنياه أنّه يُقَلِّب الدرهم على ظفره، فيخبرك بوزنه، وما يحسن يصلي.
قتادة بن دعامة -من طريق سعيد- ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾: يعلمون تجارتها، وحِرفتها، وبيعها (١١/٥٨٥)
ألا فانتبه أيها النائم
قال ابن القيم رحمه الله
الْغَفْلَةَ نَوْمُ الْقَلْبِ، وَلِهَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الْأَيْقَاظِ فِي الْحِسِّ نِيَامًا فِي الْوَاقِعِ، فَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ،
مختارات