حيوات مضاعفة!
استوقفتني عبارة للروائي البولندي أندرزيج ستاسيوك، يقول فيها: " أغلب الظن أن معدل الكيانات الرقمية والسينمائية والتمثيلية التي يلتقي بها المرء في حياته الدنيا يقترب من المعدل الذي يمكن أنه تهبه إياه الحياة الأبدية ". وبغض النظر عن حرفية العبارة، والسياق الذي وردت فيه، إلا أنها فتحت ذهني للتأمل.يولد الانسان المعاصر وتبتكر له المصانع ألوان الملهيات والألعاب منذ ولادته، يكبر ويمشي ويتحدث، ليجد أنواع كثيرة من مدن الألعاب والملاهي الحركية والمائية والذهنية…الخ، مع قوائم لا تنتهي من الحلويات واللذائذ المطعومة والمشروبة، يكبر قليلاً ليظفر بأحدث تقنيات ألعاب الڤيديو، وليتمكن من خلالها من أن يقوم بأدوار آمنة وممتعة كلاعب كرة شهيرة، وقائد سيارة فارهة وسريعة يهرب بها عن رجال الشرطة، وجندي مقاتل يتطاير دم الأعداء أمام عينيه في نشوة عارمة. كما تتيح له أفلام الكارتون حكايات مصورة لم يكن خياله ليبدع أروع وأمتع منها. يكبر أكثر لتتيح له الشبكة العنكبوتية ألوان المتع البصرية والسمعية في الألعاب الرياضية، وأشكال طويلة عريضة من الفنون والأفلام، ليعيش من خلالها كل ما يسمح به الخيال البشري من حروب وبطولات وثراء ومغامرات تحبس الأنفاس، وليطالع ملايين الصور والفيديوهات لألوف من حسناوات العالم، وأجمل الأصوات، وأغرب الحيوانات البرية والبحرية، وغير ذلك مما لايمكن لأحد الإحاطة به. ولا يكاد يصل إلى أوائل العشرين حتى تكون العديد من الفرص متاحة أمامه ليخوض " تجارب " من أية نوع، في السفر والسينما والشبكات التواصلية، في العلم، والمهارات والأحلام الكثيرة.
إذاً فكمية " التجارب " والمشاهدات والفرص التي تمر بالإنسان المعاصر لم تتوفر لأجيال بأكملها في لحظات تاريخية سابقة، والتي يولد فيها الإنسان ولا يرى أمامه من هذه المشاهد أكثر مما يرى أعمى معاصر لنا.
وهذا المعنى يفسر تفاقم اللادينية في عالم اليوم، ليس الإلحاد ولا التدين الضعيف، بل الإعراض التام عن كل ذلك.
فحجم ما نسميه باصطلاح الشريعة " الفتن " يمتد بتوسع فلكي، وضخامة الإغراء الاستهلاكي، وما يسمح به من تجارب حقيقة مملوءة بالإثارة لمن يملك المال، أو مشاهدات وعروض وعوالم افتراضية لمن لا يملك المال أو لا تسمح له الظروف، تجعل من الالتزام الديني والأخلاقي ينطوي على صعوبة مضاعفة، وتوهم المنغمس في هذه " التجارب " المستمرة بامتداد زمني، وامتلاء جثماني، ينسيه محدودية الحياة القصيرة، ويصرفه عن الوعود الإلهية بالحياة الأخرى الدائمة بلذاتها اللامحدودة، بل تعملق التقانة والعلم يداعب خياله بسمادير توهمه الخلود والأبدية.
مختارات