الباحثون عن الوسامة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه ومن والاه.. وبعد
فلم يعط إنسان عطاء أعظم من الهداية إلى الله، ولم يبتل إنسان ببلاء أشد من الصرف عن الله، ومن استعرض بعض آيات الصرف والإضلال والإزاغة والختم والطبع... سيقف خائفاً ملتجئا إلى الله ألا يضلّه بعد إذ هداه..
والسؤال الذي ينبغي طرحه في هذا السياق: كيف يحدث الانتقال من الهداية إلى الضلالة، أياً كانت درجة الضلالة، فالضلالة دركات تبدأ بالانشغال بالمفضول عن الفاضل ثم بالخوض في المباحات، ثم بالصغائر وبعدها الكبائر وقد تنتهي إلى الكفر والعياذ بالله، فكل انتقال من مرتبة عليا إلى دنيا هي خطوة إلى الضلالة وكل انتقال من مرتبة دنيا إلى عليا هي خطوة إلى الهداية..
هناك ظاهرة أحب الحديث عنها هي باب يدخل منه أفواج من الضُّلال، ومن المؤكد أن هناك أبوابا لا حصر لها يضل من خلالها شياطين الإنس والجن عباد الله، ولكني أحب الحديث عن هذا الباب لأن كثيراً ممن أرى من المتساقطين يمرون عبره:
إنه باب: البحث عن الوسامة والتأنق والجمال..
هذا الباب يفضي إليه خواء داخلي، يجعل صاحبه ينصرف عن الانشغال بعمارة داخله إلى ملاحظة نواقص خارجه.. فبعد سنين من العكوف على القرآن ومدارسته، والانصراف إلى طلب العلم وحضور المحاضرات، يكتشف صاحبنا أنّ الوسامة مطلب ملح ينبغي عليه تحصيله، وتعويض ما فاته منها، ولا يأتي هذا الاكتشاف إلا بعد برزخ يمر به، هذا البرزخ هو في حقيقته فتور طبيعي، ولكنّه امتدّ وتطاول أمده حتى غدا قسوة قال الله عنها: " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم.. " امتلأت هذه المدّة القاسية بالغفلة عن ذكر الله، وتقصير عن الطاعات، وانصراف عن طلب العلم، يحدث عن هذا الانصراف وهذه الغفلة انشغال بالتوافه ومن ضمنها أو من أخطرها اكتشاف أن هناك شيء اسمه الوسامة والجمال والأناقة وأنّ وجهه وظاهره يحتوي على إمكانيات ينبغي استثمارها، وتشذيب ما يحول بين ذلك الوجه وما ينبغي أن يكون عليه من رونق ونضارة !
يبدأ عادة مشروع الحصول على الوسامة بــ " ــالعقال " !!
والعقال لا أحد يحكم بكراهته فضلا عن تحريمه، بل قد يكون لبسه من باب التواضع في بعض المجتمعات التي يحسن فيها عدم مخالفة السائد، ولكن حديثي عن شخص استقرت شخصيته على عدم لبس العقال، عرفه أهله وجيرانه وأصدقاؤه وجماعة مسجده بأنّه لا يفضل لبس العقال، لم يجبره أحد على عدم التفضيل هذا، وإنما كان طواعية، ثم فجأة ودون أن يحدث أي طارئ ملفت يقرر صاحبنا تغيير ظاهره، وهذا التغيير ليس مشكلة في حد ذاته، بل ولا حتى في دافعه لو استقر الدافع عند عملية وضع العقال فوق الشماغ، ولكن المشكلة أن دافع البحث الوسامة والأناقة يستمر مع صاحبنا، فكلما لاح له علم من الوسامة سعى إليه مستغنيا في طريقه عن بعض ما بات يعده قيودا مرهقة..
يلحظ صاحبنا _ بعد ذلك _عند وقوفه أمام المرآة أن هناك شعيرات قد ضلّت دربها عن مسار لحيته العام، وشكلت حاجزاً يحول بينه وبين المنظر المقبول، فيقرر أن يمرر عليها مقص الرقيب، لينهي علاقته بها، بعد أن كان لا يرضى أن يعتدي أحدهم على شعرة منها إذ به يقضي عليها وقد كانت مفخرته بالأمس..
ثم لا يزال به هاجس الوسامة، وفكرة التحول إلى " دون جوان " حتى تغدو لحيته كأطلال خولة تلوح كباقي الوشم.. وتتحوّل اللحية إلى مجرد فكٍّ أسفل، وكأننا في حصة علوم !
ناهيك بعد ذلك عن مشاريع تقزيع جوانب الشعر وجعل شعيرات تتدلى على جبهته المترامية الأطراف مع صبغ الشيب.. ثم كثرة ارتداء البناطيل والقمصان الرياضية وغير الرياضية.. متأسفاً على أيام كان يرى فيها كل هذه الأمور ما بين المكروه والمحرم وأخفها كان يعده خارماً لمروءته..
وسيكتشف لا محالة أن ساقه _المنحسر عنها ثوبه المقتدي بثوب المصطفى_ قبيحة، يكتشف فجأة أن ساقه نحيلة جداً أو متينة جداً وأن شعر ساقه كثيف لا يتناسب مع منصبه أو مكانته أو حتى المظهر الذي ينبغي أن يكون عليه مع أنّه أمضى الأعوام تلو الأعوام وهو لا يشعر أن هذا المكان بالذات مما ينبغي أن يفكر فيه، فإذا به يسعى إلى توجيه جهوده إلى استصلاح هذا الموضع من جسده، لتكتمل وسامته، فلماذا لا يكون متمسكاً بالشرع مع شيء من الجمال؟ فيبدأ ثوبه بالارتخاء والنزول رويداً رويداً، ثمّ لما يقترب الثوب من الكعبين يبدأ بالتفتيش عن أحاديث الإسبال، ويميل بموضوعية مفرطة مع من يقول أن الإسبال المحرّم هو المقترن بالكبر، ثم تتضخم في عينيه أحاديث الاعتناء بالجمال، وهي أحاديث جليلة ولكنّها لم تأت لتنقض أحاديث أخرى بل لتكوّن بمجموعها منهجاً عظيما.. ولكن الرغبة من التأنق والتجمّل يجعل حديث: إن الله جميل يحب الجمال.. يهدم حديث: ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار.
ثم يستشري مرض الوسامة ويغدو مقصاً يقلم به كل مظاهر الالتزام، يدفعه إلى ذلك أمور:
1) فتاوى علماء مجتهدون، ليسوا ربانيين، لأن العالم الرباني يضع بين المستفتي والحرام حائطاً من المباحات، ولا يجعل الناس يخوضون بالقرب من وديان الهلكة بحجّة ألا نص في هذه الأمور، أو أنّه لم يطلع على قول عالم معتبر في هذه المسألة.. وكأنّه لا يعلم بمشاهداته أن هذا سبيل إلى هذا، فيغمض عينيه، ويسهّل الأمور، دون النظر إلى الجانب التربوي، ولم يستفد من علمه هو، وهو الذي يعلم أن الله حرم الاقتراب من الزنا.. ولو استفاد من هذه المسألة لعلم أن أي محرم يجب على العالم الرباني أن يحول بين الناس ومواقعته بسد من المباحات..
ثم مالذي يجعل هذا العالم يتحدث في كل شيء، وأنا أظن أن العالم لو تكلم بما يعني الناس من شؤون دينهم ودنياهم ويكون به صلاح معاشهم ومعادهم لما لقي الوقت للتحدث عن اللحية والتي أجمعت قلوب الناس حتى العوام منهم أنّها من سيما الصالحين وأنها تحول بين المرء وكثير من الدنايا..
2) وأشد من الفتاوى حال بعض أهل العلم، فبعد أن شابت لحيته اكتشف أن عليه العمل بخبر قبضة ابن عمر، ففي زمن القبض على الجمر كثر القبض على اللحى، وبعضهم لما وصل إلى معترك المنايا أو قارب وهو ما بين الستين إلى السبعين من العمر بدأ بتزويق لحيته، والأمة أحوج إلى علمه الجليل من منظره الجميل، بصدق يحزنني عالم ينبغي أن يكون قدوة، تراه يسهل للناس أمر المعصية، لأنه إن قارب بفعله الحرام حتى وإن لم يقع فيه فإن ذلك دعوة مبطنة وتسهيلا لوقوع الناس في الحرام، فالعالم يجب أن يكون أبعد الناس عن الحرام وشبه الحرام، حتى لو علم إباحة فعل معين، فعليه تركه ورعاً وزهداً وتربية للفئام الناظرين إلى عمله.. وقد ورد في سيرة طاووس بن كيسان أنه كان إذا تساهل الناس في أمر شدّد فيه.. فقها وتربية.
3) ثم إن الشيطان له مدخل غريب، فتراه ينثر على هذا المتأنق فيضا من الإيمان الكاذب بعد كل مرحلة يقطعها في سبيل الوصول إلى الوسامة، فتراه يحس إحساسا حقيقياً بأن إيمانه في رقي، وأنّه بات يتدبر كتاب الله أكثر من الماضي، وكأن الشياطين تتفق فيما بينها أن تخفف عن هذا المتنازل والمنهمك في غيّه وساوسها وصرفها له عن الحق ليكون هذا التخفيف وسيلة إضلاليّة مبتكرة..
ما أجمل الطاعات في أول أيام الضلال، لها طعم عجيب، وذوق غريب، تقرأ الأجزاء من القرآن في جلسة دون ملل، وتصوم النهار دون كلل، وقد تقوم شيئا من الليل، فتحدث نفسك أنّك بتركك لتلك الأمور أنّك لم تفعل حراماً، وأن الحق كان مع من قال بعدم وجوبها، وبأن ظاهرك الآن قد بات أقرب لرضا الله وأنّ قلبك وقالبك قد تصالحا، فصرت تتذوق لذة الطاعة وحلاوة المناجاة..
تشعر أنك ابتعدت عن النفاق خطوة بأن جعلت ظاهرك على قدر باطنك، فلم تتشبّع بما لم تعط.. فإذا بك أنعشت إيمانك المندثر، فما أجمل المصالحة بين الباطن والظاهر.. هذا ما تحدث به نفسك المخدوعة..
ولكن وبعد أن يستغلظ عودك في الضلالة أيا كانت مرتبتها، وتتيقن الشياطين ألا رجعة لك، تعود لعملها بكثافة، فتشعر بظلمة الذنب وقد حاصرتك، وبأن مجموعة من صغار الشياطين قد لعبت على لحيتك.. أعني على فكك الأسفل !
تقرر بعد ذلك أن تخلع جلباب المطوّع لترتدي بنطال المثقف، تدخل مكتبتك العامرة فترفع كتب ابن تيمية وابن القيم إلى الرف العلوي، الذي لا تصله يدك بسهولة، ثم تضع في الرف القريب من متناول اليد كتب المتفلسفة والغششة والكذبة..
ثم يتصحّر قلبك تدريجياً، وتغزوه سنين الجدب، وتحاول أن ترقع ما فاتك من ثقافة، أو ما تظنه ثقافة، فتتعرف على عالم هوليود، وتبحث عن الأفلام الأوسكارية، وتصبغ لياليك بسواد المعاصي، ثم تحاول أن تتدارك ما فاتك من الفن الأصيل، وتبدأ بما بدأ به الناس، وكم ضحكت وبكيت وأنا أقرأ لبعض المتساقطين وهم يرطنون بأسماء مغنيين قدامى من أمثال بشير شنان والينبعاوي وكأنهم يريدون أن يراجعوا ما فاتهم ثم يركبوا موجة الأغنية السريعة كما يقال.. وكأن التأصيل العلمي الذي أورثتهم إياه صحوتهم قد حولوه إلى تأصيل فني..
ثم لا تسل بعد تلك المسيرة المنهكة في البحث عن الوسامة عن لوثة الجمال التي تتعدى الظاهر إلى الفكر، وتغدو فلسفة متجذرة، فالوعظ يحتوي على قبح ما، لأنه يتضمن تأنيبا للآخرين، والفتوى شيء من القبح لأنها كالوصاية، والتمسك بأوامر الله بعيد عن جمال الحياة التي تتسع للجميع.. وكذب في كذب تصبح وتمسي عليه تلك العقول الملوّثة بقبح الجمال الكاذب.. والوسامة الخادعة.. وما هي إلا هوّة غواية، وباب ضلالة.. وقبح في زيّ جمال، ولملمة لشظايا أوجه كالحة على حساب قلوب متعطشة للهداية..
أخيرا: إذا شعرت بداء الوسامة بدأ يدخل إليك من شباك الغفلة فأغلقه سريعا، احرص على القدر المعقول من التجمّل المأمور به، واحذر أن تتزحلق مع المتزحلقين، لتصل إلى مهاوي الزيغ.. وردد: ما أجمل شعث اللحية، وما أروع تشمير الثوب.. إن كانت اقتداء بحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتذكر جيدا، أكرر: جيّدا.. قول ربّك: " وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع.. ".
مختارات