" الذنوب والمعاصي التي تجب التوبة منها "
" الذنوب والمعاصي التي تجب التوبة منها "
إن الإسلام يعتمد في إصلاحه العام على تهذيب النفس الإنسانية قبل كل شيء؛ فهو يكرس جهودًا ضخمة للتغلغل في أعماقها وغرس توجيهاته في جوهرها، والعوامل المسلطة على الإنسان من داخل كيانه ومن خارجه كثيرة؛ فالنفس أمارة بالسوء، والشيطان يقعد للإنسان كل مرصد، ويقطع عليه كل طريق فيه فلاحه وسعادته.
وبحكم ما رُكّب في الإنسان من غرائز وميول وشهوات، سرعان ما ينحرف عن التوازن السليم، ويقع في المعصية، ويسرف في الذنب، ثم إنَّ دواعي الطبع وإرادات النفس وشهواتها المنحرفة مصدرها: إما جهلٌ، وإما ضعف؛ إذ لا يصدر الذنب إلا عن جهل بآثاره وموجباته، أو يكون عالمًا بذلك لكن فيه ضعف وعجز يمنعه عن محوه من قلبه بالكلية، ولا شيء يمسح صدى النفس ويغسلها من أدرانها ويعيدها إلى نقائها وصفائها أفضل من التوبة إلى الله، والعودة إلى أفياء الطاعة وظلال الاستسلام.
" وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " [آل عمران: 101].
ولا يسمى العبد تائبًا ما لم يتخلص من جميع أجناس المحرمات وأصناف الذنوب، ويتحصن ويتحرز من مواقعتها، ومنها:
أولاً: الشرك بالله، وهو أعظم الذنوب:
وهو أن يتخذ من دون الله ندًا يحبه كما يحب الله تعالى، فيدعوه ويستعين به، ولا يُغفر الشرك إلا بالتوبة منه، وتجريد التوحيد لله تعالى، سواء منه الأكبر أو الأصغر؛ كيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله – تعالى، وكقول الرجل للرجل: ما لي إلا الله وأنت، وتوكلتُ على الله وعليك.
فعلى التائب تجريد التوحيد لله، ومعاداة المشركين في الله، والتقرب إلى الله بمقتهم، واتخاذ الله وحده وليًا وإلهًا ومعبودًا وناصرًا ووكيلاً، وحافظًا ومستعانًا، وإخلاص القصد لله، متبعًا لأمره، مجتنبًا لنواهيه، طالبًا لمرضاته.
ثانيًا: الكفر:
ذنبٌ عظيمٌ وجرمٌ كبيرٌ بسببه تُحبط الأعمال، ويخلد مرتكبه في أعظم العذاب وأشد العقاب، وأنواعه مفصلة مبينة في غير هذا المقام.
ومع هذا فإن الله قد فتح باب التوبة لمن انتهى عن كفره وعناده فأسلم وأناب إليه؛ قال – تعالى -: " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ " [الأنفال: 38].
ثالثًا: النفاق:
وهو الداء العُضال الباطن الذي يكون الرجل ممتلئًا منه وهو لا يشعر؛ فإنه أمرٌ خفيٌ على الناس، وكثيرًا ما يخفى على من تلبس به، فيزعم أنه مصلح وهو مفسد، وهو من الأمراض الباطنة التي تعتور المرء وتعتريه، وإذا لم يعالج صاحبه نفسه، ويزله بالتوبة لم يلق الله – تعالى – بقلب سليم، أعاذنا الله من النفاق في القول والعمل؛ قال – تعالى -: " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا " [النساء: 145].
ورحمة الله واسعة لا تضيق بالواردين، وفضله واسع يعم التائبين؛ فمن أراد أن يُنيب إلى الله ويعتصم بالله ويتبرأ من النفاق وأهله فلا عليه إلا أن يُحقق مدلول الآية: " إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا " [النساء: 146].
فشرط في توبة المنافق الاعتصام بالله للتخلص من تلك المشاعر المذبذبة والأخلاق المتخلخلة، وإخلاص الدين لله وتجريده من شوائب الرياء؛ وبذا يرتفع التائب إلى مصاف المؤمنين؛ " وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا " [النساء: 146].
رابعًا: التوبة من الفسوق:
وكل أنواع الفسوق تجب التوبة منها؛ سواءً كان فسوقًا في العمل مقرونًا بالعصيان أو مقرونًا بارتكاب ما نهى الله عنه وعصيان أمره، أو فسوقًا في الاعتقاد؛ كفسق أهل البدع والخرافات، وبتحقيق التقوى تصح التوبة؛ بأن يعمل العبد بطاعة الله على نور من الله، يرجو رحمته، ويخاف عقابه، ويهجر المعصية ويعتصم بالكتاب والسُنة، ويعصي دواعي الطبع والشهوة ويقهرها بسلطان الطاعة والخوف من الله.
خامسًا: التوبة من البدع:
والبدعة هي: «تلك الطرائق المخترعة التي ليس لها مستند من كتاب أو سنة أو ما استنبط منهما».
وتوبة المبتدع تكون بأن يعلم أن ما هو عليه بدعة فيعترف بها ويرجع عنها، ويعتقد ضد ما كان يعتقد منها؛ أما إذا زُين له سوء عمله فرآه حسنًا فلا توبة له ما دام يرى ذلك حسنًا.
والتوبة من البدع ممكنة على كل حال بأن يهديه الله ويشرح صدره للحق، ويرشده لأحكام الشرع وقواعد الدين حتى يتبين له الحق فيستقيم عليه؛ قال الله تعالى: " وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا " [النساء: 66: 68].
سادسًا: التوبة من الزنا والقذف:
وتكون بأن يتوب إلى الله – تعالى – ويضم إلى التوبة إلى الله الإحسان إلى زوج المزني بها بالدعاء والاستغفار له، والتصدق عنه، ونحو ذلك مما يكون ذابًّا إيذاءه له في أهله.
وكذا القذف يكون بالندم على قذفه له والإحسان إليه، والاستغفار له، وذكر المقذوف بضد ما قذفه به.
سابعًا: التوبة من الربا:
وتكون بأخذ رأس المال والتخلص من الأرباح الربوية والانتهاء من المعاملات الربوية بالكلية.
قال الله تعالى: " وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ " [البقرة: 279].
ثامنًا: التوبة من الظلم:
والظلم نوعان:
النوع الأول: ظلم النفس: ويكون بترك واجب أو فعل محرم، والتوبة والاستغفار يكون من ترك المأمور وفعل المحظور فإن كليهما من السيئات والخطايا والذنب فيتدارك المرء ما فاته من واجبات فيؤديها، ويقلع عن فعل المحرم أيا كان، وترك الإيمان والتوحيد والفرائض التي فرضها الله على القلب والبدن من الذنوب – أيضًا.
فعلى التائب أن يرجع إلى حقيقة التوحيد والإيمان ويؤدي الفرائض التي فاتته من صلاة وصيام وزكاة وحج ونحوها، وإذا كان فعل الإنسان إما له أو عليه فهو يستغفر الله مما عليه، وقد يظن ظنون سوء باطلة، وإن لم يتكلم بها فإذا تبين له فيها استغفر الله وتاب من كل ما في النفس من الأمور التي لو قالها أو فعلها عذّب.
النوع الثاني: ظلم الغير: يكون في دم أو مال أو عرض؛ فإنه لا بد من إيفاء الحق ما دام قادرًا على ذلك؛ فإن كان قد أخذ المال على سبيل الدَّين فهو مدين لصاحبه حتى يؤدي ما عليه؛ فإن مات فروحه مرهونة بدينه حتى يُقضى عنه، وإلا فالقضاء يوم القيامة من حسناته إن كانت له حسنات، وإلا أُخذ من سيئات غريمه فطرحت عليه ثم طرح في النار.
عن أبي هريرة –ر ضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: «أتدرون ما المُفْلس»؟ قالوا: المُفْلس فينا من لا درهم له ولا متاع؛ قال: «إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم يطرح في النار» (رواه «مسلم).
وهذا مما يُحتم على المسلم الاهتمام بأمر التوبة وخاصة من حقوق العباد.
ويجب على العبد أن يرجع إلى الحق ويتحراه، ويتبرأ من نوازع النفس وشوائب الهوى، وأن يستغفر الله ذاكرًا له في كل حين وآن، وألا يُصر على ما فعل، ويتبجح بالمعصية في غير حياء، وبذا يغفر الله له ذنبه، ويجبر زلته، وينظمه في سلك عباده المتقين، الذين قال في شأنهم: " وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ " [آل عمران: 135].
مختارات