التشتيت الوجودي
في مؤتمر صحافي في «مهرجان كان» السينمائي الفرنسي تحدث المخرج والكاتب السينمائي المعروف وودي آلن عن معنى الحياة بالنسبة له. آلن اجتاز الثمانين من عمره، يقول أن الإنسان يسير بالضرورة إلى مكان سيء، وسوف يصله يوماً ما، وأن الكون سيتوقف في وقت ما، وكل شيء سينتهي، وأن دور الفنان إقناع الناس أن الحياة تستحق أن تعاش، وهي مهمة صعبة بطبيعة الحال، ولذلك هو يقترح تقنية مهمة للتعامل مع هذا الأمر، وهي”التشتيت”.
يقول: إن انشغالي بصناعة الأفلام، وبالتعامل مع المشاكل الفنية، كالتفكير في كيفية إتقان شخصيات الفيلم لمشهد معين. وبرغم أنها مشاكل تافهة، فهي مفيدة في تشتيت النفس عن التفكير في المأزق الوجودي. صناعة الأفلام تشتيت رائع، كما يقول وودي آلن. ثم يواصل: أن الأمر كذلك بالنسبة للممثلات في الفيلم، فهن منخرطات في أجواء العمل، وهذا الانغماس يكفل لهن تحقيق التشتيت، ولولا ذلك العمل لكنّ في منازلهن يتأملن: متى أموت؟ ولماذا؟ ماذا سأفعل إذا مات من أحبابي؟ هل سأصاب بالصلع؟!…الخ. ومن ثمّ يصبن بألوان الاكتئابات المضنية.
مثّلت إجابة آلن لي نافذة مهمة للموقف الوجودي من الحياة، وفقاً للرؤية اللادينية، وهي هنا رؤية ناضجة (بالمعنى الفني) في نظري، لا سيما أنها صدرت من شخصية معروفة باهتماماتها الفلسفية والسيكولوجية والوجودية منذ عدة عقود، كما يعبّر دوماً عنها آلن في أفلامه. ووصفتها بالنضج أيضاً لكونها صدرت من شخص مجرب يعيش في أواخر عمره، فهي تمثل خلاصة تنفيذية مهمة.
هكذا الأمر حين يغيب الله، والدين، ويبعد الوحي من الموقف إزاء الحياة، ليكون “التشتيت” الاستراتيجية المثلى للتعامل مع مأزق المعنى.
ويبدو لي أن “التشتيت” موقف نفسي معتاد وشائع، حين يفشل الإنسان في العثور على المعنى لوجوده، كما هو حال آلن.
بل حتى حين يعثر المرء على المعنى، لكن يفشل في الاندماج معه، والانقياد لمتطلباته، والالتزام بمقتضياته. وحين يخفق في استيعاب مشاكله، ويجبن عن مواجهة تكاليف الوجود، وآصار الزمان. وهذا ما يفسر لك تفاقم “قطاعات اللذة” في العالم المعاصر المعلمن بحدّة -كما يعبّر المسيري-، كالملاهي ومدن الألعاب الهائلة، والنوادي الليلية، والمراقص الإباحية، والحانات، وعوالم السينما، وكازينوهات القمار…الخ. كل هذه القطاعات وغيرها تقوم بدور “تشتيت” الفرد عن واقعه بكفاءة، وتغييب إدراكاته للوجود، وإماتة توقه وشوقه للمعنى، وإدراك سرّ هذا العالم، والمصير.
مختارات