107. عمرو بن أمية الضمري
عمرو بن أمية الضمري
"انتدب الرسول ﷺ ستة من الصحابة ليحملوا كتبه إلى عظماء ملوك الأرض … وكان أحد هؤلاء الستة عمرو بن أمية"
كانت السنة الخامسة للهجرة من أشد السنوات بأسا في الحرب الدائرة بين المشركين ومحمد رسول الله ﷺ.
ذلك أن قريشا جن جنونها؛ حين رأت كفة المسلمين ترجح (١) عليها في كل يوم …
وأن الحرب غدت بالنسبة لها حرب بقاء أو فناء …
فجردت للقضاء على الرسول صلوات الله وسلامه عليه كل سلاح؛ بما في ذلك الاغتيال والغدر …
ولم يكن المسلمون غافلين عن كيد قريش، ولا أقل منها ضراوة وبأسا.
وقد كان للعيون (٢) والفدائيين في كلا المعسكرين شأن أي شأن …
* * *
وفي ذات يوم؛ وقف الرسول صلوات الله وسلامه عليه في خواص أصحابه، وقال:
(من يذهب إلى مكة متخفيا، ويحدث في القوم أثرا تذكره العرب، ويأتينا بما جد عندهم من أخبار).
فقام إليه عمرو بن أمية الضمري، وقال: أنا يا رسول الله.
فانبسطت أسارير الرسول ﷺ وقال: (أنت لها يا أبا أمية).
* * *
كان عمرو بن أمية الضمري من أنجاد (٣) العرب المعدودين؛ جريء القلب؛ ذكي الفؤاد …
شديد المرة (٤) حاضر البديهة.
فما من عقدة إلا لها عنده حل …
وما من حرج إلا له عنده مخرج.
من ذلك - مثلا - أن الرسول ﷺ بعثه برسالة إلى النجاشي (٥) ملك "الحبشة"، وكان النجاشي يؤوي المسلمين ويحميهم …
فلما أذن له بالدخول عليه مع الداخلين؛ وجد أن سقف الباب المفضي إلى إيوان الملك قد جعل منخفضا كثيرا؛ حتى لا يدخل منه أحد إلا وهو راكع إعظاما للملك …
فلما غدا قبالة الباب؛ انفتل، ودخل على عقبه …
فشق ذلك على القوم، وهموا به …
فقال النجاشي: ما منعك أن تدخل كما يدخل الناس؟!.
فقال: لأننا معشر المسلمين قد نهينا عن أن نركع لغير الله.
فقبل اعتذاره.
وبإيجاز؛ فقد كان عمرو بن أمية أليق الناس بهذه المهمة التي ندب إليها نفسه؛ لولا عيب واحد فيه؛ هو أن أهل مكة جميعا كانوا يعرفونه لا بسيماه (٦) فحسب … وإنما بصوته ومشيته أيضا
* * *
أمد الرسول صلوات الله عليه عمرا برجل من الأنصار؛ فمضى هو وصاحبه قاصدين معاقل الشرك في مكة، وجعلا يواصلان السير في الليل ويكمنان في النهار؛ خشية أن تراهما عين من عيون قريش.
وكانا يمنيان نفسيهما بأن يأتيا بأبي سفيان بن حرب إلى المدينة قتيلا أو أسيرا.
* * *
فلما غدوا قريبين من مكة؛ ارتبطا جملهما في شعب (٧) من شعابها البعيدة ودخلاها متلفعين (٨) بأردية الظلام …
قاصدين منزل أبي سفيان بن حرب.
فقال الأنصاري لعمرو:
يا أبا أمية؛ ليتنا نطوف بالبيت، ونصلي ركعتين ثم نمضي لشأننا …
فقد يكون هذا آخر العهد بالبيت.
فقال له عمرو: إن من عادة قريش إذا تعشوا أن يجلسوا في أفنية بيوتهم، وأكثرها مطل على الكعبة …
والقوم في حالة حرب، وهم متيقظون لكل طارق.
فقال له الأنصاري - متوسلا -:
عزمت (٩) عليك أن تفعل، ولن يصيبنا شر إن شاء الله.
فلان له عمرو، ومضيا إلى البيت؛ فطافا به سبعا، وصليا ركعتين في الحجر …
ثم خرجا لشأنهما الذي قدما من أجله.
* * *
قال عمرو:
فما إن أتممنا ركعتينا؛ حتى رأيت رجلا يحدق بي في العتمة …
فلما عرفني قال:
عمرو بن أمية؟! …
والله ما قدم مكة إلا لشر (١٠)، وأطلق صوته يستصرخ (١١) الناس …
فقلت لصاحبي: النجاء (١٢) النجاء؛ فإن القوم قد نذروا (١٣) بنا، وإنهم - والله - إن يظفروا بنا يجعلوا خشبتي صلبنا إلى جانب خشبة خبيب (١٤).
ومضينا مصعدين في الجبل؛ فإذا القوم قد خرجوا في طلبنا مسرعين، وكنت أعرف الناس بشعاب مكة؛ فما زلنا نخرج من شعب وندخل في آخر
حتى أضاعونا، ويئسوا منا، وعادوا أدراجهم.
* * *
دخلت أنا وصاحبي كهفا في ذروة الجبل، وبتنا فيه ليلتنا تلك …
فلما أصبحنا؛ رأينا قريبا من الكهف رجلا يرعى حصانا له …
فلزمنا مكاننا وسكنا عن الحركة؛ لكي لا يشعر بنا …
لكنه ما لبث أن أقبل على الكهف وهم بدخوله.
فقلت في نفسي: إن هو رآنا صاح بأعلى صوته مؤذنا قريشا بمكاننا، وكان معي خنجر …
فوثبت عليه وأغمدته في ثديه؛ فصاح صيحة رددت صداها الشعاب؛ فغدت صيحات.
فما هو إلا قليل؛ حتى رأيت الناس يزحفون نحو مصدر الصوت؛ فعدت إلى مكاني في الكهف، وسكنت إلى جانب صاحبي.
فلما أدركوا صاحبهم وجدوه في آخر رمق …
فقالوا له: من ضربك؟.
فقال: عمرو بن أمية.
فقالوا: أين هو؟.
فعاجله الموت قبل أن يدلهم علينا.
وعلى الرغم من أننا كنا قاب قوسين منهم أو أقل؛ نسمع ما يقولون وتبصر ما يصنعون …
فإنه لم يخطر لأي منهم أن يلج (١٥) علينا الكهف …
وإنما انطلقوا يبحثون عنا وراء ذلك.
فلما لم يقفوا لنا على أثر؛ احتملوا صاحبهم ومضوا به إلى مكة.
* * *
لبثت أنا وصاحبي في الكهف سحابة ذلك النهار؛ فلما جن (١٦) علينا الليل قلت له:
النجاء النجاء؛ فإن عيون القوم تنفض (١٧) الأرض نفضا بحثا عنا …
فلما أخذنا في طريق المدينة تذكرت خبيبا …
وكان المشركون قد ظفروا به وقتلوه، وصلبوه على خشبة في ظاهر مكة، وأقاموا عليه حرسا؛ ليراه الناس صباح مساء.
فقلت: والله لأنتزعنه منهم ولأوارينه.
فجعلنا طريقنا على المكان الذي أقيم فيه؛ فلما دنونا من الحرس؛ قال أحدهم:
والله! ما رأيت مشية أشبه بمشية عمرو بن أمية قبل هذه الليلة، ولولا أنه أصبح في المدينة لقلت إنه هو.
فتصاممت (١٨) عن مقالته كأنها لا تعنيني، ومضيت في اتجاه خشبة الصلب؛ فلما حاذيتها وثبت عليها، واقتلعتها من مكانها، وحملتها على
عاتقي وانطلقت بها أعدو عدوا …
فلحق بي الحرس وما زالوا يطردونني (١٩) حتى بلغت جرفا (٢٠) تحته مسيل ماء عظيم؛ فألقيت خبيبا فيه …
فكف الحرس عني، وانعطفوا إليه ليخرجوه منه …
فغيبه الله عنهم؛ فلم يجدوه.
* * *
ثم مضيت أنا وصاحبي حتى أوينا إلى غار في جبل "صحنان"؛ فبينما نحن فيه إذ دخل علينا كهل أعور؛ فسلم، ثم التفت إلي وقال:
ممن الرجل؟.
فقلت: من بني بكر؛ فممن أنت؟.
قال: من بني بكر أيضا.
فقلت: مرحبا.
ثم إنه ما لبث أن اضطجع ورفع صوته بالغناء؛ فقال:
ولست بمسلم ما دمت حيا … ولا دان (٢١) لدين المسلمينا
فقلت له في نفسي: ستعلم.
ثم أمهلته؛ فلما نام أخذت قوسي؛ فجعلت أحد طرفيها في عينه الصحيحة، وتحاملت عليها بثقلي كله حتى بلغت منه العظم.
ثم أيقظت صاحبي وقلت: النجاء النجاء؛ فقد أحدثت أمرا.
ومضينا منطلقين نحو المدينة.
فلما هبطنا "النقيع" (٢٢) على بعد ليلتين من يثرب؛ إذا نحن برجلين من المشركين بعثتهما قريش؛ ليتحسسا أخبار المسلمين.
فوترت قوسي وقلت: استأسرا (٢٣)؛ فأبيا.
فرميت أحدهما بسهم فخر صريعا واستأسر الثاني؛ فأوثقته رباطا، وقدمت به على رسول الله ﷺ بكل ما معه من أسرار وأخبار …
فلما رآنا الرسول ؛ أسفر (٢٤) وجهه وافتر (٢٥) ثغره، وقال:
(أفلحت الوجوه).
ثم جعل يسألني عن خبرنا …
وطفقت أقص عليه.
وهو يضحك (*).
_________
(١) كفة المسلمين ترجح عليها: أي تزداد قوتهم في مقابلة قوة قريش.
(٢) العيون: الجواسيس.
(٣) أنجاد: جمع نجد، وهو الشجاع الذي يفعل ما يعجز غيره.
(٤) شديد المرة: شديدة القوة.
(٥) النجاشي: انظره في كتاب "صور من حياة التابعين" للمؤلف؛ الناشر دار الأدب الإسلامي.
(٦) سيماه: علامته وصفته.
(٧) الشعب: الطريق في الجبل.
(٨) متلفعين بأردية الظلام: متخذين من الظلام سترا كأنه رداء يلبسونه.
(٩) عزمت عليك: أقسمت عليك.
(١٠) ذلك لأن عمرو بن أمية كان معروفا بشجاعته وفتكه؛ فكانوا يخافونه ويأخذون حذرهم منه.
(١١) يستصرخ الناس: يصرخ بالناس.
(١٢) النجاء: اطلب النجاة.
(١٣) نذروا بنا: علموا بنا.
(١٤) انظر خبره في يوم الرجيع: ص ٤٢٩.
(١٥) يلج الكهف: يدخل إليه.
(١٦) جن الليل: أظلم وستر.
(١٧) تنفض: تنظر لترى ما إذا كان فيه ما تكره.
(١٨) فتصاممت: ادعيت الصمم وكأني لم أسمع شيئا.
(١٩) يطردونني: يحملون علي ويعدون خلفي.
(٢٠) الجرف: عرض الجبل الأملس.
(٢١) ولا دان: ولا مقترب.
(٢٢) النقيع: موضع ببلاد مزينة على ليلتين من المدينة.
(٢٣) استأسرا: قدما أنفسكما للأسر.
(٢٤) أسفر وجهه: أشرق وجهه.
(٢٥) افتر ثغره: تبسم.
مختارات