المجرّات سلالم اليقين
الحمد لله وبعد،،
في منتصف القرن العشرين أطبقت على انجلترا شهرة عالم الفلك والفيزياء الانجليزي " جيمس جينز " (ت 1946م)، وقد تنقّل جينز في حياته الأكاديمية بين جامعة كامبردج وجامعة برنستون، وكان بروفيسور (الرياضيات التطبيقية) في جامعة برنستون.
وكان له إسهامات رئيسية في حقلي الفيزياء والفلك، وخصوصاً في تطوير بعض المسائل في مجال الأشعة (radiation)، وتخلّق وتطور النجوم (stellar evolution)، وانتقد نظرية لابلاس في تكون النظام الشمسي واقترح فرضية بديلة، ونحو ذلك.
وسميت باسم جينز عدد من المكتشفات العلمية، منها قانون فيزيائي يسمى (قانون رايلي-جينز) (Rayleigh-Jeans law) حيث ساهم جينز في تطويره وهو قانون يصف الإشعاعات الطيفية في الموجات الكهرومغناطييسية.
ومن المكتشفات التي سميت باسمه (كتلة جينز) (Jeans mass) وهي نظرية تتعلق بنشأة النجوم، حيث تمثل الحد الأدنى لكتلة السحابة الغازية التي ينشأ عن انكماشها نجم جديد.
وكذلك فوهة قمرية (lunar crater) اكتشفت على سطح القمر سميت باسمه (فوهة جينز)، وكذلك فوهة مريخية (Martin crater) اكتشفت على سطح كوكب المريخ سميت باسمه أيضاً.
وأي قارئ لحياة " جيمس جينز " العلمية يلاحظ فوراً أنه كان يقف على هذه التخوم بين الكوسمولوجيا (الكونيات) والفيزياء؛ بسبب التحام هذين العلمين في العصور الأخيرة، فكثير من الفلكيين فيزيائيون، وكثير من الفيزيائيين فلكيون، ولذلك يقول الفلكي الأمريكي " لويد متز " (ت 2004م) في كتابه قصة الفيزياء:
(الفلك أصبح اليوم أكثر من أي وقت مضى فرعاً من الفيزياء، ويكفينا لتأكيد ذلك أن نلاحظ العلاقات القائمة بين فيزياء الطاقة العالية والكونيات (الكوسمولوجيا)، أو بين تطور النجوم والفيزياء النووية، أو تلك العلاقات بين بنية المجرات وتحريك السوائل، فهي تظهر مدى الرابطة المتينة بين فرعي المعرفة هذين، بل إن قصة الفيزياء تبدأ بعض نواحيها بالفلك اليوناني) [متز وويفر، قصة الفيزياء، ترجمة تربدار والأتاسي، ص 25].
وليس من العسير إدراك وتفسير سبب هذ التداخل والاشتراك بين مباحث الفيزياء والفلك والتي يشير إليها متز وزميله في النص السابق، ذلك أن الفلك يعنى بالأجرام السماوية، والفيزياء تدرس الحركة وسلوك المادة وطاقتها خلال الزمن والمكان، ومن الطبيعي أن تدرس الفيزياء حركة وسلوكيات هذه الأجرام، ومن هاهنا يجد الفيزيائي نفسه أحياناً فلكياً، ويجد الفلكي نفسه أحياناً فيزيائياً.
ولم يكتف " جيمس جينز " بكتابة الأطروحات المتخصصة، بل كان ينتمي إلى قطاع من المتخصصين يؤمنون بأهمية تبسيط (العلوم الطبيعية) للقارئ العام، كما كتب الفيزيائي البريطاني (ستيفن هوكنغ) مثلاً كتابه المشهور (موجز تاريخ الزمن: من الانفجار الكبير إلى الثقوب السوداء) والذي بسّط فيه أسس الكوسمولوجيا (الكونيات)، وبيعت منه أكثر من عشرة ملايين نسخة، وتُرجم للغات العالمية.
ومثل هذا النمط من المؤلفات التي تخاطب القارئ العام تخلق للمؤلف شهرة في الإعلام باعتباره شارح ومفسر للثورات العلمية في زمنه، وقد لعب " جيمس جينز " هذا الدور فعلاً، وخصوصاً في حقل الكوسمولوجيا (الكونيات) وهو حقل شديد الجاذبية والإبهار للقارئ العام.
وينتمي " جيمس جينز " للتيار الذي يعطي الفلسفة (موقعاً ذيلياً) بالنسبة للعلوم الطبيعية، وأن الفلسفة ذات هوية تبعية باعتبار أن العلوم الطبيعية تكتشف وتبتكر وتخترع، والفلسفة تعلّق لاحقاً فقط على ما تم اكتشافه، فالفلسفة لدى هذا التيار، مجرد " تفسيرات " تلاحق تطورات العلوم، كما يقول جينز مثلاً:
(الفلسفة في أية فترة زمنية، مرتبطة دوماً، وبشكل كبير؛ مع العلم في نفس هذه الفترة، لذلك فإن أي تغير رئيسي في العلم ينتج ردود فعل في الفلسفة).
انظر: [J. Jeans، Physics and philosophy، Cambridge، 1943، p.2].
وهذا الرأي التبخيسي للفلسفة في مقابل إجلال العلوم الطبيعية، والذي يتبناه الفيزيائي/الفلكي " جيمس جينز "، ليس رأياً مبتكراً له، بل هو اتجاه معروف في الفكر الغربي، ويشيع خصوصاً بين الباحثين في الحقول التجريبية، ويمكن أن نجد اعترافاً بهذا الدور التبعي/التفسيري للفلسفة في التشبيه الذي صاغه رأس الفلسفة الألمانية " هيغل " (ت 1831م)، حين وصف الفلسفة في نهاية مدخل كتابه عن فلسفة الحق بقوله:
(بومة مينرفا لا تنشر أجنحتها وتطير إلا حين يخيم المساء)
انظر [Hegel، Philosophy of right، p.xxi].
ومينرفا هي آلهة الحكمة والفلسفة في الأساطير الرومانية، وكان لها بومة لأن البومة في تصوراتهم رمز للحكمة باعتبار سلوكها الصامت المراقب طوال النهار، واختيارها المواقع غير المأهولة.
ومقصود هيغل بهذا التشبيه أن الفلسفة لا تبدأ في العمل إلا بعد انتهاء الأحداث والأعمال في النهار، فتأتي لاحقاً لتفسر فقط، ومقتضى هذا التشبيه أن الفلسفة ذات (مرتبة تفسيرية) فقط، لا (صانعة للأحداث).
وهناك شواهد أخرى كثيرة في الفكر الغربي لمن يميل لهذا الاتجاه التقزيمي لمكانة الفلسفة في مقابل تعظيم العلوم الطبيعية ونتائجها في الطب والتكنولوجيا ونحوها، وليس هاهنا محل بسط هذه الشواهد.
ولذلك تجد أمريكا -مثلاً- المتفوقة في العلوم والتقنية يقل فيها الفلاسفة، بينما أوروبا التي تراجعت مقابل التفوق الأمريكي يكثر فيها الفلاسفة، حتى أن عالم النفس الأمريكي جرانفيل ستانلي (ت 1924م) في مقالته " الفلسفة في الولايات المتحدة " التي نشرها في فصلية (مايند) حين كان يطرح تشخيصاً مبكراً للواقع الفلسفي في أمريكا يقول:
(الفلاسفة في أمريكا أندر من الثعابين في النرويج)
(philosophers in America are as rare as snakes in Norway)
انظر مقالته: [G. Stanley Hall، Philosophy in the United States، Mind، p.95]
وقد استعرض ستانلي تفسيراً لهذه الظاهرة -أعني محدودية الفلاسفة في أمريكا- مرتبطاً بعمر البلد، ومزاج الأعمال والاستثمار العملي.
وفي تقديري الشخصي أن من أهم كتب جيمس جينز كتابه " الفيزياء والفلسفة " (Physics and philosophy) وهو دراسة مقارنة بين طريقة عمل الفيزيائيين ومنتجاتهم العلمية، وطريقة عمل الفلاسفة ومنتجاتهم التي قدموها، ويحاول جينز في كتابه هذا أن يثبت وجهة نظره تفصيلاً حول تواضع ثمرات الفلسفة مقارنةً بالنتائج التي قدمتها لنا الفيزياء، وفي هذا الكتاب مواضع صادمة للقارئ، مثل الموضع الذي شرح فيه نظرية كانط وحلل جدواها وأنه يرى أنها لم تضف شيئاً ذا بال، ثم حاول أن ينقل الفلسفة إلى تفكير جديد على ضوء نتائج الفيزياء كمفهوم السببية وحرية الإرادة وغيرها.
وإذا وضع الباحث كتاب جينز هذا في سياقه التاريخي فسيستوعب بالضبط خلفيات هذا الطرح، فكتاب جينز هذا (الفيزياء والفلسفة) وُلِد في أيام (ثورة العلوم الطبيعية) وتطور الحياة الاجتماعية بناء على المكتشفات والابتكارات التي تضخها في حياة الناس، وكانت هذه المرحلة أصعب اللحظات التي بدأت تعيش فيها الفلسفة (أزمة الجدوى)، فصار يتساءل كثير من الباحثين في الحقول التجريبية خصوصاً عن (جدوى الفلسفة) ويرون أنها لم تقدم شيئاً؟
ومن أهم الأطروحات التي حاولت دراسة هذه الظاهرة والرد على المخالفين فيها، ورقة الفيلسوف الانجليزي برنارد ويليامز (ت 2003م) وكانت بعنوان " حول بغض وازدراء الفلسفة " (On hating and Despising philosophy) وقد نشرت في مجلة (لندن ريفيو) وقد استفتحها ويليامز بقوله (حيثما وجد موضوع فلسفي وجد من يكرهه ويزدريه) والرصد المثير الذي عرضه ويليامز هو قوله في مقالته (هذه الأيام، معظم الذين يتخذون هذا الموقف ضد الفلسفة ليسوا متدينين، بل علماء!).
انظر مقالته: [B. Williams، On hating and Despising philosophy، LRB، 1996، p.16]
وبطبيعة الحال لم يكن ويليامز مسروراً بهذه الظاهرة، بل خصص هذه الورقة للرد على هذه الاتجاه المستخفّ بالفلسفة بعد ثورة العلوم الطبيعية.
هذه الظاهرة شديدة الشيوع في الفكر الغربي العلمي، أعني ازدراء الفلسفة وتعظيم العلوم الطبيعية، تقودنا إلى التساؤل:
لماذا إذن شاع بين الشباب المثقف العربي، المعجب بالغرب؛ القراءة في " التراث " الفلسفي الغربي، كفلاسفة القرون 17-18-19، والضعف في التكوين العلمي الطبيعي؟
الحقيقة أن هذه الظاهرة تستحق الرصد والتحليل، وسأحاول أن أقدم تفسيراً لها، ففي تقديري أن هؤلاء الشباب العربي قرؤوا للمفكرين العرب الذين درسوا الفلسفة في الغرب، ولم يقرؤوا لمختصي العلوم الطبيعية من العرب، فنقلهم المفكرون العرب أصحاب التكوين الفلسفي إلى التراث الفلسفي الغربي، وصوروا لهم أن التقدم المادي الغربي كله نتيجة للفلسفة الغربية، وهذا التصوير نتيجة طبيعية لكون هؤلاء المفكرين العرب يسوقون بضاعتهم، ولذلك وجدنا شباباً عربياً يتخرج من كليات الطب والهندسة والعلوم ثم يصرف وقت فراغه في قراءة التراث الفلسفي الغربي (القرون 17-18-19)، بدلاً من أن ينشر الثقافة العلمية الحديثة والمعاصرة في بلده! وهذه ظاهرة مدهشة فعلاً، ومحزنة في نفس الوقت، فالمؤهلون بالعلوم التي يحتاجها مجتمعنا من الجادّين في القراءة يترك بعضهم ترقية مجتمعنا بتخصصه، ويذهب يحفر في غبار التاريخ الغربي العتيق!
ويمكن للقارئ أن يتابع بعض المقالات الفلسفية في صحفنا المحلية، أو الندوات الفلسفية في محيطنا الخاص؛ وسيلاحظ أن الرموز الفلسفية الغربية المتداولة غالبها الساحق ينتمي إلى " الماضي " الفلسفي الغربي، وليس إلى " الراهن " والحديث والمعاصر، وآخر ما توصل إليه العلم!
سيلاحظ الراصد للحالة الفلسفية العربية والمحلية خصوصاً -مثلاً- أن الرموز الفكرية الفلسفية المتداولة بينهم هم رموز القرن السادس عشر (مارتين لوثر)، أو رموز القرن السابع عشر (فرانسيس بيكون، ديكارت، توماس هوبز)، أو رموز القرن الثامن عشر (جون لوك، هيوم، روسو، كانط) أو رموز القرن التاسع عشر (بنتام، هيغل، شوبنهاور، كيركيجارد، سبنسر، نيتشة) ونحو هؤلاء، ويعرف القارئ أن التطور العلمي المعاصر تجاوز بمسافات فلكية أفكار وتصورات هؤلاء الفلاسفة الذين عاشوا عصور التخلف التكنولوجي.
ولذلك يمكن القول أن الشباب الذين طلّقوا القراءة في العلوم الشرعية، وانصرفوا للقراءة في التراث الفلسفي الغربي؛ أنهم انتقلوا من (تراث) إلى (تراث آخر) فقط، وهم يتخيلون أنهم انتقلوا من الماضي للحداثة!
وإذا كان بعض هؤلاء الشباب يسمي الكتب الشرعية كتباً صفراء، فالذي فعله هو أنه انتقل فقط من كتب صفراء شرقية، إلى كتب صفراء غربية! فما زال في عالم الصُّفرة بحسب معاييره!
لكن ما السبب الذي دعا الشباب المثقف العربي للإقبال على كتب الفلسفة العربية والعزوف عن الكتب العلمية العربية؟ ربما يعود السبب إلى مبادرة المفكرين الفلسفيين العرب، وتكاسل المختصين العرب في العلوم الطبيعية عن تبسيط العلوم للقارئ العام، وربما لأن العلوم تحتاج إلى معامل ومختبرات وأجهزة وتمويل للبحث العلمي، بخلاف الفلسفة التي هي (نشاط تأملي ذهني محض) ينهي المؤلف فيه كتابه في غرفته الخاصة، وبسبب تفريط النظم السياسية العربية في تمويل البحث العلمي اتجهت العقول إلى الاشتغال بالفلسفة كتعويض.
على أية حال.. ما سبق كله كان استطراداً غير مقصودٍ بالأصالة، وإنما جرّنا إليه توجّه " جيمس جينز " إلى تبخيس الفلسفة وتعظيم العلم في كتابه (الفيزياء والفلسفة)، فاضطرنا الحديث إلى عرض هذا الاتجاه في الفكر الغربي.
وإنما كان المراد الأساسي من السطور السابقة هو التعريف الموجز فقط بالفيزيائي/الفلكي " جيمس جينز " ؛ تمهيداً لعرض حوار هام جرى بينه وبين طرف آخر، وهو عالم الرياضيات الهندي (عناية الله المشرقي).
هذا الطرف الآخر في الحوار وهو عناية الله المشرقي (ت1963م) قد عُرِف بولعه الغريب بالرياضيات، وأنهى الماجستير في الرياضيات وعمره (19) سنة وحطم الأرقام القياسية السابقة له، وفي نفس العام (1907م) وقد أتم التاسعة عشرة من عمره؛ سافر إلى بريطانيا لمواصلة دراساته في الرياضيات في جامعة كامبردج، وأنهى خلال وجوده في كامبردج دراسة عدة تخصصات موازية في اللغات الشرقية والعلوم الطبيعية!، ومكث في كامبردج خمس سنوات إلى العام 1912م، ثم عاد بعدها إلى الهند
ولما بلغ عناية الله المشرقي بحر الثلاثين خطرت له فكرة تفسير القرآن على ضوء مكتشفات العلوم الطبيعية، ونفذ الفكرة فعلاً، وأنهى المجلد الأول منه وعمره (36 سنة) في عام 1924م، وسماه (التذكرة)، فلفت الأنظار بعمله هذا، وتم ترشيحه لجائزة نوبل، إلا أن لجنة الجائزة اشترطت ترجمة العمل لأحد اللغات الأوربية، فرفض عناية الله الجائزة، وقال: (لا أريد جائزة لا تعترف بلغتي الأوردية!) برغم أنه درس في كامبردج أصلاً عدة تخصصات، وشأن الترجمة لا يكلفه شيئاً، لكنها أنفة العالم الهندي.
وانخرط عناية الله في المعترك السياسي، وتقلد عدة مناصب حكومية، ثم استقال وأسس حزباً سياسياً اسمه (حركة الخاكسار)، وأنشأ صحيفة أسبوعية باسم (الإصلاح)، وسجن لعدة مرات.
وللأسف، لم تكن الصورة مشرقة إلى هذا الحد، فقد كان لدى عناية الله بعض التصورات الخاطئة حول السنة النبوية، ومفهوم اختلاف النبوات في التشريع، ونظرية التفسير الإسلامية، وغيرها.
وللتوسع حول شخصية عناية الله المشرقي ودوره يمكن مراجعة كتاب (Allama Inayatullah Mashraqi) لمحمد مالك، وهو من مطبوعات أكسفورد، وإن كان الكتاب ركّز على حياته السياسية.
لكن.. دعنا نصل الآن إلى جوهر المراد من هذا التعريف بالشخصيتين، وهما: العالم الفيزيائي/الفلكي الانجليزي (جيمس جينز)، وعالم الرياضيات الهندي (عناية الله المشرقي).
ففي نفس الفترة التي قدم فيها عناية الله المشرقي إلى كامبردج لمواصلة دراساته في الرياضيات، التقى بجيمس جينز حيث كان جينز يدرّس في الجامعة، وتعرف عليه، وقد روى عناية الله المشرقي قصة مدهشة وقعت له مع جينز، وقد نشرت هذه القصة في مجلة (نقوش) الباكستانية، في عددها الخاص المكرس لسيرة عناية الله المشرقي، ثم نقلها عن المجلة المذكورة المفكر الهندي (وحيد الدين خان) في كتابه الذي ترجم بعنوان (الاسلام يتحدى: مدخل علمي إلى الإيمان، ص204 - 205)، وأصل الكتاب في النسخة الانجليزية بعنوان (الله يتجلى: أدلة الله في الطبيعة والعلم) وذكر في مقدمته أن هذا الاسم (الله يتجلى) مأخوذ من آية في الانجيل، ولكن في الترجمة العربية جعل العنوان (الإسلام يتحدى).
حسناً.. دعنا الآن ننقل هذا الحوار الطويل، يقول وحيد الدين خان في كتابه " الاسلام يتحدى " ما يلي:
(وسوف أختم هذا الباب بواقعة رواها العالم الهندي المغفور له الدكتور عناية الله المشرقي وهو يقول:
كان ذلك يوم أحدٍ، من أيام سنة1909م، وكانت السماء تمطر بغزارة، وخرجت من بيتي لقضاء حاجة ما، فإذا بي أري الفلكي المشهور السير جيمس جينز-الأستاذ بجامعة كمبردج-ذاهباً إلي الكنيسة، والإنجيل والشمسية تحت إبطه، فدنوتُ منه، وسلمت عليه، فلم يرد علي، فسلمت عليه مرة أخرى، فسألني: ماذا تريد مني؟
فقلت له: أمرين، يا سيدي! الأول هو: أن شمسيتك تحت إبطك رغم شدة المطر!.
فابتسم السير جيمس وفتح شمسيته على الفور.
فقلت له: وأما الأمر الآخر فهو: ما الذي يدفع رجلا ذائع الصيت في العالم مثلك؛ أن يتوجه إلي الكنيسة؟
وأمام هذا السؤال توقف السير جيمس لحظةً، ثم قال: عليك اليوم أن تأخذ شاي المساء عندي.
وعندما وصلت إلي داره في المساء؛ خرجت ليدي جيمس، في تمام الساعة الرابعة بالضبط، وأخبرتني أن السير جيمس ينتظرني، وعندما دخلت عليه في غرفته، وجدت أمامه منضدة صغيرة موضوعة عليها أدوات الشاي، وكان البروفيسور منهمكاً في أفكاره، وعندما شعر بوجودي سألني: ماذا كان سؤالك؟.
ودون أن ينتظر ردّي بدأ يلقي محاضرة عن تكوين الأجرام السماوية، ونظامها المدهش، وأبعادها وفواصلها اللامتناهية، وطرقها، ومداراتها، وجاذبيتها، وطوفان أنوارها المذهلة، حتي إنني شعرت بقلبي يهتز بهيبة الله وجلاله.
وأما السير جيمس فوجدت شعر رأسه قائماً، والدموع تنهمر من عينيه، ويداه ترتعدان من خشية الله، وتوقف فجأة ثم بدأ يقول: يا عناية الله! عندما ألقي نظرة علي روائع خلق الله، يبدأ وجودي يرتعش من الجلال الإلهي، وعندما أركع أمام الله وأقول له: " إنك لعظيم! " أجد أن كل جزء من كياني يؤيدني في هذا الدعاء، وأشعر بسكون وسعادة عظيمين، وأحس بسعادة تفوق سعادة الآخرين ألف مرة، أفهمت يا عناية الله خان، لماذا أذهب إلي الكنيسة؟
ويضيف العلامة عناية الله قائلاً: لقد أحدثت هذه المحاضرة طوفاناً في عقلي، وقلت له: يا سيدي لقد تأثرت جداً بالتفاصيل العلمية التي رويتموها لي، وتذكرت بهذه المناسبة آية من آي كتابي المقدس، فلو سمحتم لي لقرأتها عليكم.
فهز رأسه قائلاً: بكل سرور.
فقرأت عليه الآية التالية: (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).
فصرخ السير جيمس قائلا: ماذا قلت؟ " إنما يخشى الله من عباده العلماء " ؟ مدهش! وغريب وعجيب جداً!!، إن الأمر الذي كشفتُ عنه بعد دراسة ومشاهدة استمرت خمسين سنة، من أنبأ محمداً به؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقيقة؟ لو كان الأمر كذلك؛ فاكتب شهادة مني أن القرآن كتاب موحى من عند الله.
ويستطرد السير جيمس جينز قائلاً: لقد كان محمد أمياً، ولا يمكنه أن يكشف عن هذا السر بنفسه، ولكن " الله " هو الذي أخبره بهذا السر.. مدهش..! وغريب وعجيب جداً)
[وحيد الدين خان، الإسلام يتحدى، ترجمة ظفر الإسلام خان، ص203].
هذا الحوار المثير الذي وقع بين الفيزيائي/الفلكي جيمس جينز، وعالم الرياضيات الهندي عناية الله المشرقي، له دلالات وفيه مواضع لا ينقضي منها العجب.
فهذا الانفعال العميق الذي وقع من " جينز " وهو يتعمق في دراسة المعلومات الفلكية ويستعرضها إلى درجة الارتجاف وانهمار الدموع مشهدٌ يثير كوامن الإيمان في النفوس البشرية.
وبسبب أن عناية الله كان صغير السن حين التقى بجينز، وانبهر بإيمانه بالله، فقد كان لذلك أثر عجيب في تعميق اليقين بالله في نفس هذا الفتى، حتى اعتُبِر جينز ملهماً له.
وهذا الكون العجيب بمجراته ونجومه وكواكبه وأقماره ومداراته ونظامه دفع البروفيسور جينز إلى البحث عن أقرب دين يعرفه فتمسك النصرانية، فكيف لو تعرف على كتاب الله المحفوظ ورأى ما فيه من عجائب الإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي، والإعجاز البلاغي، والإعجاز الروحي.
ثم انظر مع كل هذا الانبهار بعجائب الكون ونظامه، ازداد جينز دهشة حين سمع قول الله (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، وشهد أن القرآن حق! فما أعجب ما يصنعه القرآن في النفوس البشرية!
ومن العجائب في هذا الحوار أن تنظر كيف يجد البروفيسور " جينز " في فطرته البشرية ما يؤيده وهو يناجي الله بالتعظيم ويقول لله " إنك لعظيم " ! فكيف لو عرف هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مناجاة الله بأشرف الأذكار والمقامات وقد تفطرت قدماه صلى الله عليه وسلم؟!
ثم انظر كيف يحكي البروفيسور " جينز " عن السعادة والسكينة التي تغمر نفسه حين يناجي الله بالتعظيم، فكيف لو ذاق سكينة القرآن وسعادة التهجد ولذة الخشوع والانطراح بين يدي الله؟!
كل هذه المعاني في تعظيم الله تكشفت للبروفيسور " جينز " وهو يتأمل فقط ملكوت السموات والأرض، حتى بلغ أن شهد للقرآن أنه حق، وأن نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- حق، ألا صدق الله سبحانه إذ قال (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[فصلت:53].
هذه المشاعر التي عصفت بالبروفيسور جينز وهو يتدبر عظمة ملكوت السموات والأرض، وجمال الفلك، عرضت لكثير من الناس غيره، وسأذكر بعض الشواهد:
فهذا إيمانويل كانط (ت1804م) رمز الفلسفة الألمانية، وفي عمله الثاني في ثلاثيته النقدية المشهورة، استفتح خاتمة الكتاب بهذه العبارة ذات الدلالات المثيرة، حيث يقول كانط في كتابه المشار إليه:
(شيئان اثنان يملآن العقل بإعجاب ومهابة متجددين ومتزايدين، كلما كررنا النظر فيهما؛ الأفلاك المرصعة بالنجوم فوقنا، والقانون الأخلاقي فينا).
انظر: [Kant، The Critique of Practical Reason، p.138]
حين تتأمل في مشاعر كانط هذه التي يرويها عن نفسه، وتستحضر منزلة كانط المركزية في الفلسفة بعامة، والفلسفة الألمانية بخاصة؛ تصل إلى نتيجة خلابة، وهي انفعال أشد الناس إيغالاً في العلوم العقلية بهذه الآيات الكونية الفلكية في السماء..
حسناً.. دعنا نتجاوز هذه الطبقة من أهل العلوم الطبيعية والفلسفية، ولنتأمل في طبقة أرفع منهم وأشرف وأنقى وأزكى وأعلم، وهم سادات العلم والإيمان، وإذا دلفنا إلى هذه الطبقة فلن أستطيع أن أتجاوز قصةً شاهدها الحافظ أبو حفص البزار (ت 749هـ) بنفسه، ثم سجلها في كتابه " الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية ".
وبالمناسبة فكتاب البزار هذا في تقديري هو أعذب الكتب التي ترجمت لأبي العباس، صحيح أن في ترجمة ابن عبد الهادي وابن كثير توسُّعٌ في نواحٍ معينة، لكن البزار نقل أموراً من دقائق تصرفات ابن تيمية، في ليله ونهاره، لا تجدها عند غيره، بل حتى طريقة تكبيره للصلاة، وربما يكون السبب في ذلك أن البزار اقترب من ابن تيمية شغفاً بنقل أحواله، وكان ابن تيمية يدنيه منه، كما يقول البزار (وكنت مدة إقامتي بدمشق ملازمُه جلّ النهار، وكثيراً من الليل، وكان يدنيني منه حتى يجلسني الى جانبه) [ص38]. وإني أغبط كل قارئ لم يقرأ بعد الأعلام العلية، لأنه سيتمتع بها.
وهذه القصة التي نقلها البزار عن ابن تيمية تتعلق بموضوعنا عن الفلك، حيث يروي الحافظ البزار برنامج ابن تيمية بعد صلاة الفجر مباشرة، فيقول:
(ثم يشرع في الذكر، وكان قد عُرِفت عادته لا يُكلِّمه أحد بغير ضرورة بعد صلاة الفجر، فلا يزال في الذكر يُسمِع نفسه، وربما يسمع ذكره من إلى جانبه، مع كونه في خلال ذلك يكثر من تقليب بصره نحو السماء، هكذا دأبه حتى ترتفع الشمس ويزول وقت النهي عن الصلاة) [الأعلام العلية، ص38].
فتأمل كيف كان أبو العباس ابن تيمية يكثر من النظر في ملكوت السموات والأرض بعد صلاة الفجر وهو يذكر الله، يقلب بصره في السماء، لما يتضافر في ذلك من اجتماع أسباب الاستغراق في استحضار العظمة الإلهية، وإنما ورد النهي عن رفع البصر إلى السماء في حال الصلاة كما في صحيح البخاري لأنها حال خاصة من الخشوع والإطراق والأدب، وأما في سوى ذلك فلم ينه عنه، كما كان رسول الله يقلب وجهه في السماء وهو يلتمس تحويل القبلة (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا)[البقرة:144].
ومن أعظم النماذج في التعامل مع الفلك كمعراج لليقين، والتي تفوق ماذكرناه عن غير الرسل، موقف خليل الله إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم- وما جرى له من أحوال مع الأجرام الفلكية.. وقد نص الله في كتابه أنه أرى إبراهيم " ملكوت السموات والأرض " لتحقيق نتيجة واضحة وهي قوله " وليكون من الموقنين "..
فأي برهان أعظم من هذا البرهان يبين أن الفلك معراج لليقين.. وأن الأجرام السماوية وأحوالها سلالم يصعد بها القلب إلى مدارات الجزم وخلع الارتيابات..(وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)[الأنعام:75].
النظر في ملكوت السموات والأرض.. درب ينتهي بصاحبه إلى جنة اليقين..
وقد دعانا الله إلى هذا النظر في ملكوت السموات والأرض فقال سبحانه (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف:185].
على أية حال.. من تأمل في قصة الفيزيائي/الفلكي جيمس جينز وشدة انفعاله بعظمة صنع الله وبدائع نظامه في الفلك حتى انهمرت دموعه، وتأمل عبارة كانط حين تحدث عن تزايد الإعجاب والمهابة كلما كرر المرء النظر في السماء المرصعة بالنجوم فوقنا، وتأمل كيف كان الإمام ابن تيمية يقلب بصره في السماء بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس.. ثم ضم هذه المشاهد كلها إلى قول الله (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أدرك شيئاً من عجائب أسرار القرآن في غرس اليقين في النفوس البشرية!
وكلما أعاد المرء التأمل والتمعن في العبارة الأخيرة " وليكون من الموقنين " انفتحت له أبواب عظيمة إلى مقام الإحسان، وهو أرفع مقامات الدين، فوق الإسلام والإيمان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، يعني من شدة اليقين..
فإذا رأيت النجوم تتدلى بحبال ضيائها إليك فاغتنم الفرصة وتسلق بها إلى قمم اليقين..
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
مختارات