" الاستحياء من الله عز وجل "
" الاستحياء من الله عز وجل "
من استحيا من الناس أن يروه بقبيح دعاه ذلك إلى أن يكون حياؤه من ربه أشد، فلا يضيع فريضة ولا يرتكب خطيئة، لعلمه بأن الله يرى، وأنه لا بد أن يقرره يوم القيامة على ماعمله، فيخجل ويستحيي من ربه.
عن ابن مسعود رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه: " استحيوا من الله حق الحياء " قالوا: إنا نستحيي يا رسول الله، قال " ليس ذاكم، ولكن من استحيا من الله حق الحياء ؛ فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء " (رواه أحمد).
يحفظ الرأس وما وعى، بجميع حواسه الظاهرة والباطنة، فلا يستعملها إلا فيما يَحِلُّ.
وعن معاوية بن حَيْدَةَ رضى الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا: ما نأتي منها وما نذر؟ قال: " أحفظ عورتك، إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك؟ قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: " إن استطعت أن لا يرينها أحد، فلا ترينها أحداً " قلت: يا رسول الله، إذا كان أحدنُا خالياً: " الله أحق أن يستحيا منه من الناس " (رواه احمد).
وقال بلال بن سعد: (لا تنظر إلى صِغر الخطيئة، ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها).
وعندما خلا رجلٌ بامرأة فأرادها على الفاحشة فقالت له: انظر هل يرانا من أحد؟ فقال لها: ما يرانا إلا الكواكب، قالت له: فأين مكوكبها؟!.
وقد قسم ابن القيم الحياء في كتابه (مدارج السالكين) إلى عشرة أوجه: حياء جناية، وحياء تقصير، وحياء إجلال، وحياء كرم، وحياء حشمة، وحياء استصغار للنفس واحتقار لها، وحياء محبة، وحياء عبودية، وحياء شرف وعزة، وحياء المستحيي من نفسه.
وذكرها رحمه الله مفصلة، فهي باختصار:
1/ حياء الجناية:
منه حياء آدم عليه السلام لما فرَّ هارباً في الجنة، قال الله تعالى: أفراراً مني يا آدم؟ قال: لا يا رب، بل حياءً منك.
ومنه حياء الأنبياء في عرصات القيامة، وليس عندهم ما يزري بمراتبهم العالية السامية.
2/ حياء التقصير:
كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
3/ حياء الإجلال:
هو حياء المعرفة، وعلى حسب معرفة العبد بربه يكون حياؤه منه، ومنه حياء عمرو بن العاص رضى الله عنه كان يقول: (والله، إن كنت لأشد الناس حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأت عينيَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا راجعته بما أريد حتى لحق بالله عز وجل ؛ حياءً منه) (رواه احمد).
4/ حياء الكرم:
كحياء النبي صلى الله عليه وسلم من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب، وطولوا الجلوس عنده،فقام واستحيا أن يقول لهم: انصرفوا، فقال الله عز وجل " وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ " [الأحزاب: 53].
5/ حياء الحشمة:
كحياء على بن أبي طالب أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي لمكان ابنته منه: عن علي رضى الله عنه قال: كنت رجلاً مذاءً، فأمَرْتُ المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال " فيه الوضوء "، ولفظه في رواية أخرى: كنت رجلاً مذاءً،فأمرت رجلاً أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ـ لمكان ابنته ـ فسأله، فقال " توضأ واغسل ذكرك " (رواه البخاري).
6/ حياء الاستحقار واستصغار النفس:
كحياء العبد من ربه عز وجلحين يسأله حوائجه، احتقاراً لشأن نفسه، واستصغاراً لها، وفي أثر إسرائيلي: (أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: يا رب إنه لتعرض لي الحاجة من الدنيا، فأستحيي أن أسألك إياها يا رب، فقال الله تعالى: سلني... حتى ملح عجينك، وعلف شاتك).
7/ حياء المحبة:
هو حياء المحب من محبوبه، حتى إنه إذا خطر على قلبه في غيبته، هاج الحياء من قلبه وأحسَّ به في وجهه ولا يدري ما سببه، وكذلك يعرض للمحب عند ملاقاته محبوبه ومفاجأته له: روعة شديدة، ولا ريب أن للمحبة سلطاناً قاهراً للقلب أعظم من سلطان من يقهر البدن، فأين من يقهر قلبك وروحك إلى من يقهر بدنك؟! ولذلك تعجبتِ الملوك والجبابرة من قهرِهم للخلق وقهر المحبوب لهم، وذلهم له، فإذا فاجأ المحبوب محبه، ورآه بغتةً: أحسَّ القلب بهجوم سلطانه عليه فاعتراه روعة وخوف.
يقول الشاعر:
فما هو إلا أن أراها فجاءة فأبهت حتى ما أكاد أجيب
وإني لتعروني لذكرك هزة لها بين جلدي والعظام دبيب
أو كما قال الشاعر:
فيعثَرُ ما بين الكلام ورجعه لساني بكم حتى ينم بحالي
8/ حياء العبودية:
هو حياء ممتزج من محبة وخوف، ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده، وأن قدره أعلى وأجل منها، فعبوديته له تستوجب استحياءه منه، لا محالة.
9/ حياء الشرف والعزة:
أما حياء الشرف والعزة فحياء النفس العظيمة الكبيرة إذا صدر منها ما هو دون قدرها ؛ من بذل أو عطاء وإحسان ؛فإنه يستحيي ـ من بذله ـ حياءَ شرف نفسٍ وعزة.
10/ وأما حياء المرء من نفسه:
فهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقناعتها بالدون، فيجد نفسه مستحيياً من نفسه حتى كأن له نفسين، يستحيي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيا من نفسه،فهو بأن يستحيي من غيره أجدر.
مختارات