" التجسـس"
" التجسـس "
ذم التجسس والنهي عنه:
#### أولًا: في القرآن الكريم:
- نهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن التجسس في آية محكمة وصريحة تدلُّ على حرمة هذا الفعل المشين، والخصلة المذمومة، فقال تبارك وتعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ " [الحجرات: 12].
قال ابن جرير وهو يتحدث عن تفسير قوله: " وَلا تَجَسَّسُوا يقول ": (ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره...) ثم ذكر أثر ابن عباس: (نهى الله المؤمن من أن يتتبع عورات المؤمن) [رواه الطبرى فى تفسيره].
وقال البغوي: (نهى الله تعالى عن البحث عن المستور من أمور الناس وتتبع عوراتهم؛ حتى لا يظهر على ما ستره الله منها) [تفسير البغوى].
- وقال تعالى وهو يتحدث عن المنافقين وعن صفاتهم: " لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ " [التوبة: 47].
قال مجاهد: (معناه وفيكم محبون لهم، يؤدون إليهم ما يسمعون منكم، وهم الجواسيس) [تفسير البغوى].
وقال القرطبي: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي: عيون لهم، ينقلون إليهم الأخبار منكم) [الجامع لأحكام البيان].
#### ثانيًا: في السنة النبوية:
لقد شدَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن التجسس والتحذير منه، وبيَّن أنَّه مفسد للأخوة، وسبب في تقطيع الأواصر والصلات، وسبيل إلى إفساد الناس:
- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إيَّاكم والظنَّ، فإنَّ الظنَّ أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا) [رواه البخارى ومسلم].
- وعن ابن عبا رضى الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، أو يفرون منه، صُبَّ في أذنه الآنك يوم القيامة) [رواه البخارى].
#### أقوال السلف والعلماء في التجسس:
- عن ابن عباس في قوله: " ولا تجسسوا " قال: (نهى الله المؤمن أن يتبع عورات أخيه المؤمن) [رواه ابن أبى حاتم فى تفسيره].
- وقال مجاهد في قوله: " وَلا تَجَسَّسُوا " قال: (خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله) [جامع البيان،للطبرى].
- وقال قتادة في تفسيرها: (هل تدرون ما التجسس أو التجسيس؟! هو أن تتبع أو تبتغي عيب أخيك لتطلع على سرِّه) [جامع البيان،للطبرى].
- وقال ابن زيد في تفسيرها أيضًا: قال: (حتى أنظر في ذلك وأسأل عنه، حتى أعرف حقٌّ هو، أم باطل؟ قال: فسماه الله تجسسًا، قال: يتجسس كما يتجسس الكلاب) [جامع البيان،للطبرى].
- وقال الحسن: (لا تسأل عن عمل أخيك الحسن والسيئ، فإنَّه من التجسس) [روضة العقلاء].
#### أقسام التجسس وحكم كلِّ قسم:
الأصل في التجسس أنَّه محرم شرعًا، منهيٌّ عنه، غير أنَّ هناك بعض الصور قد تقتضي المصلحة جوازها.
وعليه فيمكننا أن نقسم التجسس إلى قسمين:
تجسس ممنوع:
(ويُقصد به تتبع عورات الناس وأسرارهم، والكشف عن معائبهم؛ بدافع الفضول وإشباع غريزة حبِّ الاستطلاع، دون أن يكون له غرض مباح؛ من جلب منفعة راجحة، أو دفع مفسدة متوقعة، سواء أكان ذلك بالتطلُّع، أو التنصت والاستماع) لأعقوبة الإعدام دراسة فقهية مقارنة لأحكام العقوبة بالقتل فى الفقه الإسلامي،لمحمد بن سعد الغامدى].
وهذا النوع من أنواع التجسس هو الذي نصَّت الأدلة الواضحة على تحريمه، ولم يبح إلا في حالات خاصة، فـ(إنَّ الأصل في المسلم الطهارة، والعفة، والبراءة، والسلامة من كلِّ شيء مشين، ولذا كان الأصل في الإسلام النهي عن التجسس بجميع صوره وأشكاله، سواء كان تجسس الفرد على الفرد، أو الفرد على الدولة، أو الدولة على الدولة؛ لأنَّ التجسس انتهاك لحرمة المسلم، وكشف ستره، وقد يسبب الحقد والبغض بين أفراد المجتمع المسلم، وهذا الذي يرفضه الإسلام جملة وتفصيلًا) [الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأثرهما فى حفظ الأمة، لعبد العزيز المسعود].
تجسس مشروع:
وأما النوع الثاني من أنواع التجسس، وهو التجسس المشروع، فـيراد به كلُّ تجسس يهدف إلى مصلحة الدولة الإسلامية في تعاملها مع أعدائها، أو تطهيره المجتمعات من أهل الشرِّ والفساد، وملاحقتهم والتضييق عليهم.
وهذا القسم من أقسام التجسس يتفاوت حكمه التكليفي من الوجوب إلى الإباحة، حسب ما تقتضيه المصلحة والضرورة، فهناك ما هو تجسس واجب: (وهو ما يكون طريقًا إلى إنقاذ نفس من الهلاك، أو القضاء على الفساد الظاهر؛ كاستدراك فوات حرمة من حرمات الله... ووجه وجوبه أنَّ ذلك من ضمن وسيلة النهي عن المنكر) [أحكام السماع والاستماع فى الشريعة الإسلامية، لمحمد معين الدين بصرى] وهناك ما هو تجسس مباح، وهو ما عدا ذلك من الصور التي استثناها الشرع من التحريم، ولا تصل إلى درجة الوجوب، كالتجسس على الأعداء لمعرفة عددهم وعتادهم وغيرها [انظر:أحكام السماع والاستماع فى الشريعة الإسلامية، لمحمد معين الدين بصرى].
#### من آثار التجسس الممنوع:
1- أن التجسس مظهر من مظاهر سوء الظنِّ، وأثر من آثاره، فهو متولِّد عن صفة مذمومة سيئة نهى عنها الدين الحنيف.
وذلك (لأنَّ الظنَّ يبعث عليه حين تدعو الظانَّ نفسه إلى تحقيق ما ظنَّه سرًّا، فيسلك طريق التجسس) [التحرير والتنوير،لابن عاشور].
2- والتجسس صورة من صور ضعف الإيمان، وضعف التدين، وقلة المراقبة، هذا على الجانب الديني؛ أما الأخلاقي والسلوكي، فهو يدلُّ على دناءة النفس وخسَّتها، وضعف همَّتها، وانشغالها بالتافه من الأمور عن معاليها وغاياتها.
3- وهو سبيل إلى قطع الصلات، وتقويض العلاقات، وظهور العداء بين الأحبة، وبثِّ الفرقة بين الإخوان، (فقد يرى المتجسس مِن المتجسس عليه ما يسوءه، فتنشأ عنه العداوة والحقد. ويدخل صدره الحرج والتخوف؛ بعد أن كانت ضمائره خالصة طيبة، وذلك من نكد العيش) [التحرير والتنوير،لابن عاشور].
4- وبالتجسس تنهار القدوات، وتصغر في الأعين القامات، وعندها تهون الذنوب وتحقَّر السيئات، وتفسير ذلك أنَّ المتجسس عليه إذا كان في منزل القدوة؛ واطلع منه على أمر سيئ، أو ذنب، أو معصية فإنَّه لا شكَّ سيقلُّ قدره، وستتلاشى مكانته، ولن يقبل منه نصحًا ولا توجيهًا، بل ربما تهون المعصية التي عملها على المتجسس فيعملها؛ بحجة أن ليس أحسن حالًا من فلان القدوة الذي تلبس بها.
5- كما أنَّه سبيل إلى إشاعة الفاحشة بين المسلمين، وانتشار السوء بينهم، وذلك بما يحصل من نشر لما استتر من الفضائح، وإظهار لما خفي من السوءات.
#### صور التجسس:
من صور التجسس الممنوع:
- التجسس على بيوت المسلمين والاطلاع على عوراتهم (بالاستماع من وراء الأبواب، أو بالدخول في البيوت على حين غفلة من أهلها، أو باستئذان لغرض كاذب، كشرب الماء والمقصود غير ذلك... وكل ذلك لا يجوز في شرع الإسلام) [المفصل فى أحكام المرأة والبيت المسلم فى الشريعة الإسلامية، لعبد الكريم زيدان].
- ومن صوره أيضًا اقتحام البيوت، والخلوات بحجة ضبط من فيها متلبسين بالمعصية، ولا شك أنَّ هذا مما لا يبيحه الشرع ولا يقبله.
- ومن صور التجسس الممنوع التقصي والبحث عن معاصٍ وسيئات اقترفت في الماضي، والتجسس على أصحابها لمعرفتها.
قال السفاريني: (ويحرم تجسيس على ما يفسق به في الزمن الماضي، أو الفسق الماضي مثل أن يشرب الخمر في الزمن الذي مضى، وتبحث عنه أنت بعد مدة لأن ذلك إشاعة للمنكر بما لا فائدة فيه، ولا عود على الإسلام، وإنما هو عيب ونقص، فينبغي كفه ونسيانه دون إذاعته وإعلانه، وإنما يحرم التجسس عن ذلك إن لم يجدد العود عليه، والإتيان به ثانيًا. فإن عاوده فلا حرمة إذن.
قال في الرعاية: ويحرم التعرض لمنكر فُعِل خفية على الأشهر، أو ماض، أو بعيد، وقيل يجهل فاعله ومحله، وقال أيضًا: لا إنكار فيما مضى وفات إلا في العقائد أو الآراء) [غذاء الألباب].
- ومن صور التجسس الممنوع استماع المرء إلى حديث قوم، وهم له كارهون، فقد تُوُعِّدَ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سيصبُّ في أذنه الآنك يوم القيامة بسبب فعلته، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، أو يفرون منه، صُبَّ في أذنه الآنك يوم القيامة) [رواه البخارى].
صور التجسس المشروع:
- من صور التجسس المشروع التجسس على أعداء الأمة لمعرفة عددهم وعتادهم (فقد اتفق الفقهاء على أنَّ التجسس والتنصت على الكفار في الحرب مشروع وجائز لمعرفة عددهم، وعتادهم، وما يخطِّطون له، ويدبِّرون من المكائد للمسلمين، وهو الأمر الذي يكون بعلم الإمام، وتحت نظره ومعرفته) [بهجة الأسماع فى أحكام السماع فى الفقه الإسلامى، لعلى بن ذريان].
(فالتجسس على أعداء الأمة الإسلامية بتتبُّع أخبارهم، والاطِّلاع على مخططاتهم التي يعدُّونها للقضاء على الأمة الإسلامية، وإثارة الفتنة والقلاقل بين صفوفها، وزعزعة أمنها واستقرارها أمر مشروع، بل قد يكون واجبًا في حالة قيام حرب بينهم وبين المسلمين، وقد دلَّ على مشروعيته الكتاب والسنة وعمل الصحابة:
فمن الكتاب: عموم قول الله تعالى: " وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ " [الأنفال: 60].
فقد أمرت الآية المسلمين بإعداد ما يستطيعون من قوة لمواجهة الأعداء، ومن أسباب القوة التخطيط السليم، واليقظة والحذر، والتأهب الدائم؛ لإحباط مخططات الأعداء، ولا شكَّ أنَّ ذلك لا يتمُّ إلا بمعرفة أخبار الأعداء وخططهم، ورصد تحركاتهم، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب، فدلَّت الآية على مشروعية التجسس على الأعداء بكلِّ وسيلة شريفة، وطريقة نبيلة).
ومن السنة أحاديث كثيرة، منها
- عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: (من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا، ثم قال: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا، ثم قال: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا، ثم قال: إنَّ لكلِّ نبيٍّ حواريًّا، وإنَّ حواريَّ الزبير) [رواه البخارى].
- وعن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، يزيد أحدهما على صاحبه قالا: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة، قلَّد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة، وبعث عينًا له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه، قال: إنَّ قريشًا جمعوا لك جموعًا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك، وصادُّوك عن البيت، ومانعوك. فقال: أشيروا أيها الناس عليَّ، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدُّونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عزَّ وجلَّ قد قطع عينًا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين، قال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدًا لهذا البيت، لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجَّه له، فمن صدنا عنه قاتلناه،قال: امضوا على اسم الله) [رواه البخارى].
#### من أسباب التجسس الممنوع:
للتجسس الممنوع عدة دوافع يمكننا أن نذكر منها ما يلي:
- الفضول المحض: قد يكون الدافع إلى التجسس وتتبع عورات الناس هو الفضول المحض، وحبَّ الاستطلاع، ومعرفة ما خفي واستتر.
- قصد الإيذاء والفضيحة: فيتجسس على الشخص لكي يؤذيه، أو يفضحه؛ لغرض في نفسه، قد يكون دافعه الحسد، أو الكراهية، أو غير ذلك من الأمور.
- سوء الظنِّ: فالتجسس كما أسلفنا هو أثر من آثار سوء الظنِّ، فإذا ظنَّ شخص بشخص سوءًا دفعه ذلك إلى التحقُّق من ظنِّه، فيعمد إلى التجسس وتتبع العورات.
#### الوسائل المعينة على ترك التجسس
1- أن يراقب الله تبارك وتعالى قبل كل شيء، ويخشى أليم عقابه، وقوة انتقامه، فإن في ذلك زاجرًا له عن هذه الخلة القبيحة.
2- أن يترك الإنسان فضوله، وحبه للتفتيش، والاستطلاع على الآخرين، وذلك بأن يشغل نفسه بما يهمه في دنياه وأخراه، ويعلق نفسه بمعالي الأمور، ويبعدها عن سفاسفها، ويعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) [صححه الألبانى فى صحيح سنن الترمذى].
3- أن ينمي في نفسه الحرص على وحدة المسلمين وترابطهم، والخوف من تفككهم، وتقطع الأواصر بينهم، فإن هذا يجعله يبتعد عن كل ما يكون سببًا في تهديد هذه الوحدة والترابط، سواء كان ذلك السبب هو التجسس، أو غيره من الأخلاق السيئة.
4- أن يتدبر النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، وآثار السلف التي تحذر من هذه الصفة فإن في ذلك رادع قوي وعلاج ناجع.
مختارات