" مدرسة التوفيق ! "
" مدرسة التوفيق ! "
يقول ابن القيم (رحمه الله): «وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه وإعانتهُ؛ فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك. فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به والخذلان في مواضعه اللائقة به وهو العليم الحكيم».
نعم يا ابن القيم في أي مدرسة درست، أو من أي جامعة تخرجت؟!
إنها مدرسة التوفيق بفضل الكريم المنان.
إنها كلمة تهز القلوب هزًا، تجعله يتلفت يمينًا وشمالًا في حاله وكلامه وعمله ومدخله ومخرجه، هل هو سائر على طريق التوفيق والسداد أم لا؟!
قال الحكيم العليم: " وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا " [الإسراء: 80].
وإذا أحب الله عبدا وفقه وحباه، وجعل من أخلاقه الرحمة والحب والعطاء، والصبر والوفاء والكرم والعفو، والتجاوز عن الغير، والتواصل بالبر والإحسان، وهذا – وربي – طريق التوفيق والسداد في الدنيا والآخرة خير وأبقى.
تأمل وفقك الله في هذا الحديث النبوي:
عن أبي عنبة الخولاني رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته» [السلسلة الصحيحة].
فأي منزلة، وأي توفيق، وأي فضل هذا أن يوفقك ربك لإعلاء كلمته ونصرة دينه وتتبع مرضاته؟! وبقدر ما تقدم وتبذل لدينك يجتبيك ربك ويوفقك ويحفظك، وهو خير الحافظين، والجزاء من جنس العمل.
ويؤكد ابن رجب (رحمه الله) هذا المعنى الراقي قائلًا: «... التوفيق كله بيد الله عز وجل فمن يُسر عليه الهدى اهتدى، ومن لم يُيسره عليه لم يُتيسر له ذلك» وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «أما أهل السعادة، فيُسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُسرون لعمل أهل الشقاوة» [رواه البخاري ومسلم].
ويحلِّق بنا ابن القيم (رحمه الله) قائلًا: «وقد أجمع العارفون على أن كل خير فأصله بتوفيق الله للعبد، وكل شرٍّ فأصله خذلانه لعبده، وأجمعوا أن التوفيق ألَّا يكلك الله إلى نفسك، وأن الخذلان هو أن يخلِّي بينك وبين نفسك، والتوفيق بيد الله، فمفاتحه: الدعاء، والافتقار، وصدق اللجأ والرغبة والرهبة إليه، فمتى أُعطي العبد هذا المفتاح، فقد أراد أن يفتح له، ومتى أضله عن المفتاح، بقي باب الخير مرتجًّا دونه».
ويؤكد الشيخ خالد المصلح – حفظه الله – على هذا المعنى بقوله: «من أعظم أسباب التوفيق الكبرى: سلامة القصد، وصفاء النية وخلوصها من الغل والدغل؛ ولهذا قال الله عز وجل مُنبهاً على هذا المعنى في الحكمين عند اختصام الزوجين " إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا " [النساء: 35].
ورحم الله من قال: إذا حانت فرص الأجر فلم يغتنمها العبد، ودعاه داعي الخير فأعرض عنه؛ فهذا من خذلان الله – عياذاً بالله – ألم يقل ربنا: " وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ " [التوبة: 46].
فينبغي أن نجيب داعي الخير دائما، وهذا لا يتأتى إلا بتوفيق رب العالمين».
يقول الشيخ سفر الحوالي حفظه الله: «إن القلوب تنشط أحيانا وتتكاسل أحيانا، والواجب علينا أن نستغل ساعة نشاطها في قطع الطريق إلى الله، أما ساعة فتورها فلا تفتر، بل علينا أن نجاهدها ونضربها بسياط الخوف من الله تعالى، ونحدوها بحادي الرجاء.
وتأمل في هذا الأفق البعيد حيث قال أبو سليمان الداراني (رحمه الله): «إن التوفيق على قدر القُربة !».
وصدق: أي على قدر طاعتك وقربتك واجتهادك في عمل الطاعات آناء الليل وأطراف النهار، يكون توفيقك من ربك الكريم المتعال، فالتوفيق ينزل من عند الله – جل في علاه – الذي بيده خزائن السموات والأرض، فتضرع، وانكسر، وانطرح، وألح، وسارع في الخيرات وأكثر من السجود بين يديه، واقرع أبواب السماء، واستمطر التوفيق من ذي الجلال والإكرام " إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ " [الأنبياء: 90].
أيها الموفق، يناديك ابن الجوزي (رحمه الله) قائلا لك: متى رأيت في نفسك عجزًا فاسأل المنعم، أو كسلاً فالجأ إلى الموفق، فلن تنال خيراً إلا بطاعته، ولا يفوتك خير إلا بمعصيته.
وقد أجمع العلماء على أن التوفيق: ألا يكل الله العبد إلى نفسه، وأن الخذلان كل الخذلان أن يخلي بينه وبين نفسه.
وبين لنا ابن تيمية (رحمه الله) الطريق إلى التوفيق بقوله: وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة، فلم يكرم الله عبدا بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه ويرفع به درجته.
فتحسس – يا رعاك الله – مواضع قدميك، وانظر أين تسير بهما.
مختارات