" من أشراط السَّاعة الكبرى : يأجوج ومأجوج "
" من أشراط السَّاعة الكبرى: يأجوج ومأجوج "
* أصلهم:
قبل الحديث عن خروج يأجوج ومأجوج أرى من المناسب أن نتعرف على أصلهم، وما ذا يعني لفظ (يأجوج) و(مأجوج)؟
يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان، وقيل: عربيان.
وعلى هذا يكون اشتقاقهما من أجَّت النار أجيجًا: إذا التهبت، أو من الأجاج: وهو الماء الشديد الملوحة المحرق من ملوحته. وقيل عن الأج: وهو سرعة العدو، وقيل: مأجوج من ماج؛ إذا اضطرب. وهما على وزن يفعول في (يأجوج)، ومفعول في (مأجوج) أو على وزن فاعول فيهما.
هذا إذا كان الاسمان عربيين، أما إذا كانا أعجميين؛ فليس لهما اشتقاق؛ لأن الأعجميَّة لا تُشتَقُّ من العربية.
وقرأ الجمهور " ياجوج " وماجوج " ؛بدون همز، فتكون الألفان زائدتين، وأصلهما (يجج)، و(مجج)، وأما قراءة عاصم؛ فهي الهمزة الساكنة فيهما.
وكل ما ذُكِرَ في اشتقاقهما مناسب لحالهم، ويؤيد الاشتقاق من (ماج) بمعنى اضطرب قوله تعالى: " وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ " [الكهف: 99] وذلك عند خروجهم من السد (انظر: لسان العرب).
وأصل يأجوج ومأجوج من البشر، من ذرية آدم وحواء عليهما السلام.
وقد قال بعض العلماء: إنهم من ذرِّية آدم لا من حواء (انظر: " فتاوى الإمام النووي " المسمى " المسائل المنثورة)، وذلك أن آدم احتلم، فاختلط منيُّه بالتراب، فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج.
وهذا مما لا دليل عليه، ولم يرد عمَّن يجب قبول قوله(انظر: النهاية/ الفتن والملاحم).
قال ابن حجر: " ولم نر هذا عند أحدٍ من السلف؛ إلا عن كعب الأحبار، ويرده الحديث المرفوع: أنهم من ذرية نوح، ونوح من ذرية حواء قطعًا " (فتح الباري).
ويأجوج ومأجوج من ذرِّيَّة يافث أبي الترك، ويافث من ولد نوح عليه السلام (انظر: النهاية/ الفتن والملاحم).
والذي يدلُّ على أنهم من ذرِّيَّة آدم عليه السلام ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى: يا آدم ! فيقول: لبيلك وسعديك، والخير في يديك،فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير، وتضع كلُّ ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد " قالوا: وأيُّنا ذلك الواحد؟ قال: " أبشروا؛ فإن منكم رجلًا ومن يأجوج ومأجوج ألف " (صحيح البخاري).
* صفتُهُم:
أما صفتهم التي جاءت بها الأحاديث؛ فهي أنهم يُشبِهون أبناء جنسهم من التُّرك الغتم (الغتمة: عجمة في المنطق. ورجل أغتم وغتمى: لا يفصح شيئًا. لسان العرب) المغول، صغار العيون، ذلف الأنوف، صهب الشعور، عراض الوجوه، كأن وجوههم المَجانُّ المُطرَقة، على أشكال الترك وألوانهم (انظر: النهاية/ الفتن والملاحم).
روى الإمام أحمد عن ابن حرملة عن خالته؛ قالت: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب، فقال: " إنكم تقولون: لا عدو، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوًا حتى يأتي يأجوج ومأجوج: عراض الوجوه، صغار العيون، شهب الشعاف (جمع شعفة وهي أعلى شعر الرأس، والمراد: شهب الشعور) من كل حدب ينسلون، كأن وجوههم المَجانُّ المُطرَقة " (مسند الإمام أحمد).
وقد ذكر ابن حجر بعض الآثار في صفتهم، ولكنها روايات ضعيفة، ومما جاء في هذه الآثار أنهم ثلاثة أصناف:
1- صنف أجسادهم كالأرز، وهو شجر كبار جدًا.
2- وصنف أربعة أذرع في أربعة أذرع.
3- وصنف يفترشون آذانهم ويلتحفون بالأخرى.
وجاء أيضًا أن طولهم شبر وشبرين، وأطولهم ثلاثة أشبار (انظر: " تح الباري. وقد أنكر ابن كثير هذه الصفات، وقال: إن من زعم أن هذه صفاتهم؛ " فقد تكلف ما لا علم له به "، وقال: " ما لا دليل عليه ". النهاية/ الفتن والملاحم).
والذي تدلُّ عليه الروايات الصحيحة أنهم رجالٌ أقوياء، لا طاقة لأحد بقتالهم، ويبعد أن يكون طول أحدهم شبر وشبرين.
ففي حديث النواس بن سمعان أن الله تعالى يوحي إلى عيسى عليه السلام بخروج يأجوج ومأجوج، وأنه لا يدان لأحد بقتالهم، ويأمره بإبعاد المؤمنين من طريقهم، فيقول له: " حرز عبادي إلى الطور ".
كما سيأتي ذكر ذلك في الكلام على خروجهم بإذن الله تعالى...
* أدَّلة خروج يأجوج ومأجوج:
خروج يأجوج ومأجوج في آخر الزمان علامة من علامات السَّاعة الكبرى وقد دل على ظهورهم الكتاب والسنة:
أ- الأدلَّة من القرآن الكريم:
1- قال الله تعالى " حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) " [الأنبياء: 96، 97].
2- وقال تعالى في سياقه لقصة ذي القرنين: " ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) " [الكهف: 92- 99].
فهذه الآيات تدلُّ على أن الله تعالى سخر ذا القرنين (اختلف في اسمه، فروي عن ابن عباس أن اسمه: عبد الله بن الضحاك بن معد. وقيل: مصعب بن عبد الله بن قنان من الأزد، ثم من قحطان، وقيل: غير ذلك. وسمي بذي القرنين لأنه بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشيطان ويغرب، وقيل: غير ذلك، وكان عبدًا مؤمنًا صالحًا، وهو غير ذي القرنين الإسكندر المقدوني المصري؛ فإن هذا كان كافرًا، وهو متأخر عن المذكور في القرآن وبينهما أكثر من ألفي سنة،انظر: البداية والنهاية، وتفسير ابن كثير " الملك الصالح لبناء السد العظيم؛ ليحجز بين يأجوج ومأجوج القوم المفسدين في الأرض وبين الناس، فإذا جاء الوقت المعلوم، واقتربت السَّاعة؛ اندك هذا السد، وخرج يأجوج ومأجوج بسرعة عظيمة، وجمع كبير، لا يقف أمامه أحد من البشر، فماجوا في الناس، وعاثوا في الأرض فسادًا.
وهذا علامة علامة قرب النفخ في الصور، وخراب الدُّنيا، وقيام السَّاعة (انظر: الطبري، وتفسير ابن كثير، وتفسير القرطبي) كما سيأتي بيان ذلك في الأحاديث الثابتة.
ب- الأدلَّة من السنة المطهرة:
الأحاديث الدالَّة على ظهور يأجوج ومأجوج كثيرة، تبلغ حد التواتر المعنوي، سبق ذكر بعض منها، وسأذكر هنا طرفًا من هذه الأحاديث:
1- فمنها ما ثبت في " الصحيحين " عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يومًا فزعًا يقول: " لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرِّ قد اقترب، فُتِح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه (وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها) " قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله ! أفنهلك وفينا الصالحون؟ قال: " نعم؛ إذا كَثُرَ الخَبَثُ " (صحيح البخاري وصحيح مسلم).
2- ومنها ما جاء في حديث النواس بن سمعان رضى الله عنه وفيه: " إذا أوحى الله إلى عيسى أني قد أخرجتُ عبادًا لي لا يَدان لأحد بقتالهم، فحرِّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون (هو كل موضع غليظ مرتفع) فيمر أولئك على بحيرة طبريَّة، فيشربون ما فيها، ويمرُّ آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويُحصَرُ نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مئة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب إلى الله عيسى وأصحابه، فيرسل الله عليهم النَّغَف (دود يكون في أنوف الإبل والغنم) في رقابهم، فيصبحون فرسى (قتلى) كموت نفسٍ واحدةٍ، ثم يُهبَطُ بنبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمُهم ونَتَنُهم،
فيرغب نبيُّ الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيرًا كأعناق البخت(هي جمال طوال الأعناق) فتحملهم، فتطرحهم حيث شاء الله " (صحيح مسلم).
رواه مسلم، وزاد في رواية – بعد قوله: " لقد كان بهذه مرة ماء " -: " ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر (الشجر الملتف الذي يستر من فيه، وقد جاء تفسيره في الحديث بأنه جبل بيت المقدس) وهو جبل بيت المقدس، فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض، هلم فلنقتل من في السماء، فيرمون بنشابهم (يطلق على النبل والسهام) إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دمًا " (صحيح مسلم).
3- وجاء في حديث حذيفة بن أسيد رضى الله عنه في ذكر أشراط السَّاعة، فذكر منها: " يأجوج ومأجوج " (صحيح مسلم).
4- وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فتذكروا السَّاعة.. إلى أن قال: " فردوا الحديث إلى عيسى (فذكر قتل الدَّجَّال، ثم قال): ثم يرجع الناس إلى بلادهم، فيستقبلهم يأجوج ومأجوج، " وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ " [الأنبياء: 96] لا يمرون بماء إلا شربوه، ولا بشيء إلا أفسدوه، يجأرون إلي فأدعو الله، فيميتهم، فتجوى الأرض من ريحهم، فيجأرون إليَّ، فأدعوا الله، فيرسل السماء بالماء، فيحملهم، فيقذف بأجسامهم في البحر " (رواه الإمام أحمد في " المسند " تحقيق أحمد شاكر، وقال: " إسناده صحيح " وقال الألباني: " ضعيف ". انظر: " ضعيف الجامع الصغير ".قلت: الشواهد من الأحاديث ترجح أنه صحيح. والله أعلم).
5- وعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فذكر الحديث، وفيه): " ويخرجون على الناس، فيستقون المياه، ويفر الناس منهم، فيرمون سهامهم في السماء، فترجع مخضبة بالدماء، فيقولون: قهرنا أهل الأرض، وغلبنا من في السماء قوة وعلوًا " قال: " فيبعث الله عليه السلام عليهم نَغَفًا في أقفائهم " قال: " فيهلكهم، والذي نفس محمد بيده؛ إن دوابَّ الأرض لتسمن، وتبطر، وتشكر شكرًا (إذا سمنتع وامتلأ ضرعها لبناَ، والمعنى أن دواب الأرض تسمن وتمتلئ شحمًا) وتسكر سكرًا (الخمر، ويطلق السكر على الغضب والإمتلاء ) من لحومهم " (صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير).
* سدُّ يأجوج ومأجوج:
بنى ذو القرنين سدَّ يأجوج ومأجوج؛ ليحجز بينهم وبين جيرانهم الذين استغاثوا به منهم.
كما ذكر الله تعالى ذلك في القرآن الكريم: " قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) " [الكهف: 94، 95].
هذا ما جاء في الكلام على بناء السد، أما مكانه؛ ففي جهة المشرق (انظر: " تفسير ابن كثير) لقوله تعالى: " حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ " [الكهف: 90].
ولا يُعرَف مكان هذا السد بالتحدي، وقد حاول بعض الملوك والمؤرخين أن يتعرَّفوا على مكانه، ومن ذلك أن الخليفة الواثق (هو الخليفة العباسي هارون بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد) بعث بعض أمرائه ووجه معه جيشًا سرية؛ لينظروا إلى السد، ويعاينوه، وينعتوه له إذا رجعوا، فوصلوا من بلاد إلى بلاد، ومن ملك إلى ملك، حتى وصلوا إليه، ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس، وذكروا أنهم رأوا فيه بابًا عظيمًا، وعليه أقفالٌ عظيمة، ورأوا بقية اللبن والعسل في برج هناك وأن عنده حراسًا من الملوك المتاخمة له، وأنه منيفٌ شاهقٌ، لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال، ثم رجعوا إلى بلادهم، وكانت غيبتهم أكثر من سنتين، وشاهدوا أهوالًا وعجائب " (تفسير ابن كثير).
وهذه القصة ذكرها ابن كثير رحمه الله في التفسير، ولم يذكر لها سندًا، فالله أعلم بصحة ذلك.
والذي تدلُّ عليه الآيات السابقة أن هذا السد بُني بين جبلين؛: لقوله تعالى: " حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ " [الكهف: 93]، والسدان: هما جبلان متقابلان، ثم قال: " حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ " [الكهف: 96] أي: حاذى به رؤوس الجبلين (انظر: " تفسير ابن كثير) وذلك بزبر الحديد، ثم أفرغ عليه نحاسًا مذابًا، فكان سدّاً محكمًا.
قال الإمام البخاري: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: رأيت السد من البر المحبر، قال: " قد رأيته " (رواه البخاري معلقًا في صحيحه).
وقال سيد قطب: " كُشِف سدُّ بمقربة من مدينة (ترمذ) (قال ياقوت: " مدينة مشهورة من أمهات المدن، راكبة على نهر جيحون، من جانبه الشرقي، يحيط بها سور وأسواقها مفروشة بالآجر، وممن ينسب إليها الإمام أبو عيسى الترمذي صاحب " الجامع الصحيح " و " العلل ". " معجم البلدان) عُرف بـ (باب الحديد) قد مر به في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي العالم الألماني (سيلدبرجر) وسجله في كتابه، وكذلك ذكره المؤرِّخ الإسباني (كلا فيجو) في رحلته سنة (1403م) وقال: سد مدينة باب الحديد على طريق سمرقند والهند... وقد يكون هو السد الذي بناه ذو القرنين " (تفسير الظلال).
قلت: ولعلَّ هذا السد هو السور المحيط بمدينة (ترمذ)، الذي ذكره ياقوت الحموي في " معجم البلدان " وليس هو سد ذي القرنين.
وأيضًا؛ فإنه لا يعنينا في هذا البحث تحديد مكان السد، بل نقف عند ما أخبرنا الله تعالى به، وما جاء في الأحاديث الصحيحة، وهو أن سدَّ يأجوج ومأجوج موجودٌ إلى أن يأتي الوقت المحدَّد لدَكِّ هذا السد، وخروج يأجوج ومأجوج، وذلك عند دُنو السَّاعة؛ كما قال تعالى: " قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) " [الكهف: 98، 99].
والذي يدلُّ على أن هذا السدَّ موجود لم يندكَّ ما روي عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في السد؛ قال: " يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه؛ قال الذي عليهم: ارجِعوا، فستخرقونه قال: فيعيده الله عز وجل كأشدَّ ما كان، حتى إذا بلغوا مدَّتَهم ، وأراد الله أن يبعثهم على الناس ؛ قال الذي عليهم: ارجِعُوا فستخرقونه غدًا إن شاء الله تعالى، واستثنى، قال: فيرجعون وهو كهيئته حين تركوه، فيخرقونه، ويخرجون على الناس، فيستقون المياه، ويفرُّ الناس منهم " (رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير).
والذي جاء في حديث " الصحيحين " – كما سبق – أنه فُتحَ منه جزءٌ يسير، ففزع من ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
ويرى الأستاذ سيد قطب رحمه الله من باب الترجيح لا من باب اليقين أن وعد الله بدكِّ السَدِّ قد وقع، وأنه قد خرج يأجوج ومأجوج، وهم التتار الذين ظهروا في القرن السابع الهجري، ودمَّروا الممالك الإسلامية، وعاثوا في الأرض فسادًا (انظر: في ظلال القرآن).
وفي هؤلاء التتار يقول القرطبي: " وقد خرج منهم – أي: الترك – في هذا الوقت أممُ لا يحصيهم إلا الله تعالى، ولا يردهم عن المسلمين إلا الله تعالى، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدِّمتهم " (تفسير القرطبي).
وكان ظهور هؤلا التتار في زمن القرطبي، وسمع عنهم ما سمع من الفساد والقتل، فظنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم.
ولكن الذي هو من أشراط السَّاعة الكبرى- وهو خروج يأجوج ومأجوج في آخر الزمان – لم يقع بعد؛ لأن الأحاديث الصحيحة تدلُّ على أن خروجهم يكون بعد نزول عيسى عليه السلام، وأنه هو الذي يدعو عليهم، فيهلكهم الله، ثم يرميهم في البحر، ويريح البلاد والعباد من شرهم.
مختارات