" الصلاة قرة عيون المحبين, وسعادة الخاشعين "
" الصلاة قرة عيون المحبين، وسعادة الخاشعين "
إنَّ الصلاة هي قرة عيون المحبيبن كم أخبر بذلك إمام المصلين وخاتم المرسلين وسيد ولد آدم أجمعين.
فعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حُبِّب إليَّ الطِّيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة» (قال الشيخ الألباني: صحيح، ينظر: صحيح سنن النسائي) وقرة العين كناية عن الفرح والسرور، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه حبب إليه شيئان: الطيب، والنساء، ثم قال وجعلت قرة عيني في الصلاة، وقرة العين فوق المحبة، فإنه ليس كل محبوب تقر به العين، وإنما تقر العين بأعلى المحبوبات الذي يحب لذاته، فخض الصلاة بهذا الوصف لكونها محل المناجاة له والإقبال عليه، فإذا كانت ثمرة الصوم تطهير النفس، وثمرة الزكاة تطهير المال، وثمرة الحج حصول المغفرة، فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله، وإقبال الله سبحانه وتعالى على العبد؛ لذا كانت محبوبة لذاتها، ومن كانت قرة عينه في شيء فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه؛ لأن فيه نعيمه، وبه تطيب حياته (طريق الهجرتين وباب السعادتين، وفتح الباري).
ولا شك أن هذا الحديث مما يحرك نشاط الراغبين في الخير إلى الاستكثار من الصلاة، وأن تكون قرة أعينهم في الصلاة، كما كانت قرة عينه صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وهذه الصلاة التي كانت فيها قرة عين رسول الله صلى الله عليه وسلم تتناول الفرائض والنوافل (ولاية الله والطريق إليها).
فالسعادة والراحة بالطاعة هي حال المحبين الصادقين، فإن عبادتهم طوعا ومحبة ورضا، فيها قرة عيونهم، وسرور قلوبهم، ولذة أرواحهم (مدارج السالكين).
فالصلاة قرة عيون المحبين وسرور أرواحهم، ولذة قلوبهم، وبهجة نفوسهم، يحملون هم الفراغ منها إذا دخلوا فيها كما يحمل الفارغ البطال همها حتى يقضيها بسرعة، فلهم فيها شان، وللنقارين شأن آخر، فسبحان من فاضل بين النفوس، وفاوت بينها هذا التفاوت العظيم (طريق الهجرتين وباب السعادتين).
الصلاة سعادة الخاشعين:
إن الصلاة هي بستان العابدين، وسعادة الخاشعين، وراحة نفوس العارفين، ولا ينبئك مثل خبير.
فعن سالم بن أبي الجعد، عن رجل من أسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها» (قال الشيخ الألباني: صحيح، ينظر: صحيح سنن أبي داود).
معناه: أرحنا بالدخول فيها، فكان اشتغالة صلى الله عليه وسلم بالصلاة راحة له؛ لأنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعبا، وكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله سبحانه وتعالى (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح).
فالمسلم الخاشع يؤدي الصلاة وقلبه منشرح مطمئن وعيناه قريرتان، يفرح إذا كان متلبسا بها، وينتظرها إذا أقبل وقتها، فإذا صلى الفجر كان في شوق إلى صلاة الظهر، وإذا صلى الظهر كان في شوق إلى صلاة العصر، وإذا صلى العصر كان في شوق إلى صلاة المغرب، وإذا صلى المغرب كان في شوق إلى صلاة العشاء، وإذا صلى العشاء كان في شوق إلى صلاة الفجر، وهكذا قلبه معلق بالصلاة؛ لأنه يجد فيها الراحة والطمأنينة والسكينة.
وقد ورد عن كثير من السلف الصالح أخبار وحكايات تدل على أن الصلاة بالنسبة لهم هي مصدر السعادة والراحة:
1- فقد ذكر غير واحد أن عروة بن الزبير رضى الله عنه أصابه داء الأكلة في رجله، واتفق رأي الأطباء على أنها إذا لم تقطع انتقل الداء إلى جسده كله، فلما أرادوا قطعها، عرضوا عليه أن يشرب شيئا يغيب عقله حتى لا يحس بالألم،ويتمكنوا من قطعها، فقال: ما ظننت أن أحدا يؤمن بالله يشرب شيئا يغيب عقله حتى لا يعرف ربه عز وجل، ولكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة، فإني لا أحس بذلك، ولا أشعر به، فقطوعها وهو في الصلاة فلم يشعر لشغله بالصلاة (البداية والنهاية، وشذرات الذهب).
2- كان أبو يزيد الربيع بن خيثم بن عائذ يقول: ما دخلت في صلاة قط فأهمني فيها إلا ما أقول وما يقول لي (احياء علوم الدين).
3- قال ميمون بن جابان: «ما رأيت مسلم بن يسار، ملتفتا في صلاة قط خفيفة، ولا طويلة، قال: ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها، وإنه لفي المسجد في الصلاة فما التفت (الزهد والرقائق، وصفة الصفوة).
قيل لحاتم بن عنوان بن يوسف الأصم كيف تصلي؟ فقال: إذا حان وقت الصلاة أسبغت الوضوء، ثم آتي موضع الصلاة بسكينة ووقار، أتمثل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني،والنار عن شمالي، وملك الموت فوق رأسي، وعين الله ناظرة إلي، وأكون بين الرجاء والخوف، أكبر تكبيرًا بتحقيق، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعا بخضوع، وأسجد سجودا بتذلل، وأتبعها الإخلاص ما استطعت، وأسلم، ثم لا أدري أيقبلها الله مني أم يردها علي ( احياء علوم الدين، وبحر الدموع).
ولك أن تتخيل معي أخر الكريم هذه المشاهد الرائعة من حياة سلفنا الصالح وكيف كانت عنايتهم بالصلاة، وكيف كان اهتمامهم بها، فهذا البحر الذي لا تكدره الدلاء، ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد فقهاء المدينة السبعة: عروة بن الزبير - رحمه الله تعالى – تنشر ساقه بالمنشار وهو قائم يصلي، فما تضور وجه، ولا اختلج له عضو، وهذا تلميذ عبد الله بن مسعود رضى الله عنه الذي كان إذا نظر إليه يقول: وبشر المخبتين، أما والله يا ربيع بن خيثم لو رآك محمد صلى الله عليه وسلم لفرح بك، كان إذا دخل في الصلاة لا يهتم بغير ما يخاطب به ربه، وهذا الزاهد الورع مسلم بن يسار – رحمه الله تعالى – يسقط جانب من مسجد البصرة فيصاب الناس بالفزع وهو في ناحية من المسجد يصلي لم يشعر بشيء حتى فرغ من صلاته، وهذا الزاهد، القدوة، الرباني حاتم الأصم – رحمه الله تعالى – يصف حاله مع الصلاة بعبارات قي منتهى الروعة والجمال، وكأنه بذلك يرسم لوحة فنية في قلوب الخاشعين، ويستنهض همم العابدين، ويثير حماسة المصلين، فأقوال هؤلاء وأفعالهم تعبر عن شيء واحد هو أن الصلاة هي راحة أبدانهم، وسعادتهم التي لا تدانيها سعادة في الدنيا.
فهؤلاء في جنة معجلة قبل جنة الآخرة، كما قال بعض العارفين: إنه ليمر بالقلب أوقات، أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب، وقال آخر: مساكبن أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وقال بعض من ذاق هذه السعادة: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف (مدارج السالكين، والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي).
مختارات