تابع " الأعمال المثقلة للميزان : العمل السادس عشر : الصبر "
تابع " الأعمال المثقلة للميزان: العمل السادس عشر: الصبر "
وقد اقتضت حكمة الله تعالى ألا تدوم الدنيا صفوًا، لذا وعد الله تبارك وتعالى من احتمل بلايا الدنيا وفواجعها في ذاته عز وجل بالثواب الجزيل الذي لا حد له، حيث قال تعالى: " قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ " [الزمر:10].
وقد نزلت هذه الآية الكريمة مدحًا وترغيبًا في هجر الوطن إذا كان دارًا للكفر لا يمكن فيه القيام بأوامر الله عز وجل كما ينبغي، والبحث عن وطن آخر والصبر على مشاق ذلك، وقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه موقوفا أنه قال: «الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله» (قال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: صحيح موقوف).
والصبر يكون على طاعة الله عز وجل، ويكون عن معصية الله عز وجل، ويكون على أقدار الله تعالى المؤلمة:
(أ) الصبر على طاعة الله عز وجل:
والصبر على طاعة الله عز وجل يثقل ميزان العبد، كمثل الصبر على ألم الجوع أثناء الصيام، إذ الصيام من أفضل أنواع الصبر، فهو صبر على طاعة الله عز وجل، وصبر عن معصية الله عز وجل، ولذلك سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم شهر رمضان بشهر الصبر، فعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر» (صححه الألباني في صحيح الجامع).
والصيام يثقل الميزان لأنه لا عدل لثوابه، فعن أبي أمامة رضى الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: «عليك بالصوم فإنه لا عدل له» (صححه الألباني في صحيح الجامع).
ويختلف ثواب الصبر على طاعة الله عز وجل باختلاف الأحوال والظروف التي تمر على العبد، فقد يزداد هذا الثواب في الميزان إلى ثواب خمسين شهيدًا في أوقات الفتن وغربة الدين وقلة المعين، فقد روى عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من ورائكم زمان صبر، للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدًا» (صححه الألباني في صحيح الجامع).
(ب) الصبر في ترك الشهوات المحرمة:
والصبر في ترك الشهوات المحرمة من الأمور التي تثقل ميزان العبد، كحفظ النفس من الوقوع في الزنا، حيث أخبر جل وعلا بأن من فعل ذلك فله أجر من الله عظيم، فقال تعالى: " وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا " [الأحزاب:35].
وروى سهل بن سعد الساعدي رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من توكل لي ما بين رجليه وما بين لحييه توكلت له بالجنة» (البخاري).
(ج) الصبر على أقدار الله عز وجل المؤلمة:
والصبر على أقدار الله تعالى المؤلمة تثقل ميزان العبد كثيرًا؛ كصبر المؤمن على موت ولده حيث روى ثوبان رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله وسبحان الله، والحمد لله والله أكبر والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم فيحتسبه» (صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).
وكصبر أهل البلاء على بلائهم حيث روى جابر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب، لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض» وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ليودن أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم قرضت بالمقاريض مما يرون من ثواب أهل البلاء» (حسنه الألباني في صحيح الجامع).
ولكي ينال المؤمن ثواب صبره كاملاً ليثقل ميزانه فعليه بالاحتساب، أي انتظار الثواب – إذ الفرق بين صبر المؤمن وصبر الكافر أن المؤمن يحتسب ثواب صبره من الرب جل وعلا، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب بالصبر والاحتساب عندما أخبرته باحتضار أحد أبنائها، حيث روى أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيًا لها أو ابنًا لها في الموت، فقال للرسول: «ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب...» (البخاري ومسلم).
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ترك الاحتساب قائلاً: «لا أجر لمن لا حسبة له» (حسنه الألباني في صحيح الجامع) أي لا أجر لمن لم يقصد بعمله امتثال أمره تعالى والتقرب به إليه، قاله المناوي رحمه الله تعالى (فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي) فشتان بين احتساب الصابر وعجز من لا حيلة له، فتنبه.
مختارات