" الأعمال المثقلة للميزان : العمل الثامن : الصدقة "
" الأعمال المثقلة للميزان: العمل الثامن: الصدقة "
الصدقة من أفضل القربات التي يستثمرها العبد عند ربه عز وجل، فهي من الأعمال التي ينميها الله عز وجل لصاحبها ولا يدعها كما هي، وهذا يثقل الميزان كثيرًا، قال الله تعالى: " يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ " [البقرة:276].
وروى أبو هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه – وهو المهر – حتى تكون مثل الجبل» (البخاري واللفظ له ومسلم).
قال النووي رحمه الله تعالى نقلا عن المازري: وقد قيل في تربيتها وتعظيمها حتى تكون أعظم من الجبل، أن المراد بذلك تعظيم أجرها وتضعيف ثوابها، قال: ويصح أن يكون على ظاهره وأن تعظم ذاتها ويبارك الله تعالى فيها ويزيدها من فضله حتى تثقل في الميزان، وهذا الحديث نحو قول الله تعالى " يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ".اهـ (صحيح مسلم بشرح النووي).
ولذلك لا تحقر ريالاً واحدًا تخرجه لنفسك صدقة؛ لأن الله تعالى سينميه لك ولن تجده يوم القيامة بهذا القدر، فإن بعض الناس قد يطلب منه الصدقة فلا يتوفر لديه إلا القليل، فيخجل أن يقدم هذا القليل، فيمتنع عن الصدقة، وما علم أن ما سيقدمه سينميه ربه عز وجل ويضاعفه أضعافًا كثيرة حتى يصبح الذي قدره تمرة، نحو جبل.
لذلك كانت أمنية المقصر عند الموت؛ أن يؤخر أجله لكي يتصدق، لعله أيقن بعظم ثواب الصدقة أو بعظم عقاب المفرط فيها، قال الله تعالى: " وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ " [المنافقون:10].
فأكثر من الصدقة فإن مالك الحقيقي ما قدمت ومال غيرك ما أخرت، قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إن يوم القيامة ذو حسرات، وإن أعظم الحسرات غدًا أن يرى أحدكم ماله في ميزان غيره، أو تدرون كيف ذاكم؟ رجل آتاه الله مالاً، وأمره بإنفاقه في صنوف حقوق الله، فبخل به، فورثه هذا الوارث، فهو يراه في ميزان غيره، فيا لها عثرة لا تقال وتوبة لا تنال (حلية الأولياء).
وأخلص في هذه الصدقة ولا تنتظر عليها شكرًا ليزداد أجرك بإخلاص نيتك، قال عون بن عبد الله رحمه الله تعالى: إذا أعطيت المسكين شيئًا فقال: بارك الله فيك، فقل أنت: بارك الله فيك، حتى تخلص لك صدقتك (حلية الأولياء).
وكان عبد الرحمن بن حبيب رحمه الله تعالى يؤتي بالطعام إلى المسجد، فربما استقبلوه به في الطريق فيطعمه المساكين فيقولون: بارك الله فيك، فيقول: وبارك الله فيكم، ويقول: قالت عائشة رضي الله عنها: إذا تصدقتم ودعي لكم، فردوا حتى يبقى لكم أجر ما تصدقتم أ هـ (حلية الأولياء).
أفضل الصدقات:
وأفضل الصدقات يتوقف ثوابها على حال المتصدق من جهة، وعلى نفعها من جهة أخرى، أما من حيث حال المتصدق، فإن الصدقة يعظم ثوابها عندما يخرجها صاحبها في حال صحته قبل مرضه أو دنو أجله، وأن يكون ذلك من غني لا يفضي إلى فقر، أو من رجل قليل المال فيتصدق قدر جهده وطاقته.
(1) فقد روى أبو هريرة رضى الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرًا؟ «أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم؛ قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان» (البخاري واللفظ له ومسلم).
ولذلك قال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: لئن أتصدق بدرهم في حياتي أحب إليَّ من أن يتصدق عني بعد موتي بمائة درهم (حلية الأولياء).
(2) وروى أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول» (البخاري ومسلم) أي أفضل الصدقة ما وقع بعد أن يستبقى المتصدق لنفسه ولمن يعول قدر الكفاية بحيث لا يصير محتاجًا بعد صدقته إلى أحد.
(3) وروى عبد الله بن حبشي الخثعمي رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحجة مبرورة» قيل: فأي الصلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت» قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: «جهد المقل» قيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: «من هجر ما حرم الله عز وجل» قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: «من جاهد المشركين بماله ونفسه» قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: «من أهريق دمه وعقر جواده» (صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب) ومعنى جهد المقل؛ أي ما يعطيه المقل على قدر طاقته.
وقد روى الحسن قال: قال رجل لعثمان بن عفان رضى الله عنه: ذهبتم يا أصحاب الأموال بالخير؛ تتصدقون وتعتقون وتحجون وتنفقون، فقال عثمان: وإنكم لتغبطوننا، وإنا لنغبطكم؛ قال: فوالله لدرهم ينفقه أحد من جهد، خير من عشرة آلاف درهم غيض من فيض.اهـ (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم الجوزية).
وهذا مصداق الحديث الذي رواه أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبق درهم مائة ألف درهم» قال: وكيف؟ قال: «كان لرجل درهمان فتصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عُرْضِ ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها» (حسنه الألباني في صحيح الجامع).
وأما ما يتعلق بمدى نفعها؛ فيختلف ذلك من وقت إلى آخر، فكلما عظمت حاجة الناس لها عظم ثوابها، ولو كان المحتاج لها رحمًا مخاصمًا غير مرغوب فيه.
فعندما عظمت حاجة الناس إلى الماء أوصى صلى الله عليه وسلم من سأله عن أفضل الصدقات بسقي الماء، وعندما احتاج المجاهدون إلى الدعم المالي أوصى صلى الله عليه وسلم من سأله عن أفضل الصدقات بالإنفاق في سبيل الله.
(1) فقد روى حكيم بن حزم رضى الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصدقات: أيها أفضل؟ قال: «على ذي الرحم الكاشح» (صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب) وهو الذي يضمر العداوة (فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي).
(2) وروى سعد بن عبادة رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إن أمي ماتت، فأي الصدقة أفضل؟ قال: (الماء) فحفر بئرًا وقال: هذه لأم سعد (حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).
وروى أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس صدقة أعظم أجرًا من ماء» (رواه البيهقي في شعبه، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب حسن لغيره).
(3) وروى أبو أمامة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقات ظِلُّ فُسْطَاط في سبيل الله، وَمَنِيحَةُ خادم في سبيل الله، أو طَرُوقَةُ فَحْلٍ في سبيل الله» (حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).
والمعنى أن أفضل الصدقات أن يمنح المجاهد في سبيل الله خيمة يستظل بها، أو عبدًا يخدمه، أو ناقة – تجاوز سنها ثلاث سنين صلحت لطرق الفحل – ليركبها.
فعلى المسلم الفطن أن يتحرى حاجات الفقراء الملحة في كل موسم ويبادر إلى تقديمها لهم ليزداد ثوابه ويثقل ميزانه.
مختارات