الآفة السادسة عشرة - الغيبة
والآفة السادسة عشرة التي يبتلى بها كثير من العاملين فضلاً عن عامة المسلمين، بل لا يكاد يسلم منها أحد إلا من رحم الله عز وجل، إنما هي: (الغيبة). وحتى يتطهر منها من ابتلى بها، ويتقيها من عافاه الله - عز وجل - وسلمه من الوقوع في غوائلها، فإننا بعون الله وتوفيقه سنعرض لها من الجوانب التالية: أولا: تعريف ومظاهر أو صور الغيبة: لغة الغيبة لغة: مشقة من الغيب الذي هو خلاف الشهادة، أو هو كل ما غاب عن الإنسان، سواء كان محصلاً في القلوب أم غير محصل، ومنه قوله - سبحانه -في صفة نفسه: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا } (الجن: 26-27)، {عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم} (التغابن: 18)، وعليه فالغيبة في اللغة، هي ذكر الغير في غيابه سواء أكان ذلك بما يرضى أم بما لا يرضى، وسواء أكان ذلك بالخير أم بالشر. () اصطلاحا: أما ماهية الغيبة في المصطلح الشرعي فتدور حول ذكر المسلم أخاه المسلم في غيابه بما فيه مما يسوءه، ويكرهه، يستوي في ذلك اللفظ والكتابة، التصريح والتلويح. () جاء في الحديث أنه في صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوما: " أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " ذكرك أخاك بما يكره " قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ". () ومظاهر أو صور الغيبة كثيرة منها: 1 - العيوب البدنية كقولك عن المسلم: أعمى، أعرج، أعمش، أقرع، قصير، طويل، أسود، أصفر، كبير البطن كالحبر السمين... وهكذا. 2 - العيوب الدينية كقولك عن المسلم: فاسق، فاجر، سارق، خائن، ظالم، متهاون بالصلاة، متساهل في النجاسات، ليس بارا بوالديه، لا يضع الزكاة مواضعها، لا يجتنب الغيبة... وهكذا. 3 - العيوب الدنيوية كقولك عن المسلم: قليل الأدب، يتهاون بالناس، لا يرى لأحد عليه حقا، كثير الكلام، كثير الأكل أو النوم، ينام في غير وقته، يجلس في غير موضعه... وهكذا. 4 - العيوب المتعلقة بأسرته كقولك عن المسلم: أبوه فاسق، أو هندي، أو نبطي، أو زنجي، إسكافي، بزاز، نحا س، نجار، حداد، حائك... وهكذا. 5 - العيوب الخلقية للمغتاب، كقولك عنه: سيئ الخلق، متكبر، مراء، عجول، جبار، عاجز، ضعيف القلب، متهور، عبوس، خليع... وهكذا. 6 - العيوب باللباس والهيئة كقولك عن المغتاب: واسع الكم، طويل الذيل، وسخ الثياب... وهكذا. 7 - محاكاة المغتاب في مشيه وحركته وحديثه مثل: المشي متعرجاً، أو مطأطئ الرأس، أو مصعرا الخد، ونسبة ذلك إلى المغتاب... وهكذا. 8 - غيبة المتفقهين والمتعبدين، كأن يقول أحدهم عن آخر: كيف حال فلان، الله يصلحه، الله يغفر لنا، الله يصلحنا، نسأل الله العافية، نحمد الله الذي لم يبتلنا بالدخول على الظلمة، نعوذ بالله من الشر، الله يعافينا من قلة الحياء، الله يتوب علينا، وما أشبه ذلك من كل ما يفهم منه التنقص، والازدراء... وهكذا. 9 - سوء الظن بغير دليل ولا برهان فإنه غيبة بالقلب، وقد أفردنا الحديث عن هذا المظهر، أو هذه الصورة على أنها آفة قائمة بذاتها وفصلنا القول في ذلك فليراجع في موضعه. 10 - سماع المغتابين، وعدم زجرهم والإنكار عليهم، أو عدم مقاطعة مجلسهم... وهكذا. () ثانيا: الغيبة في ميزان الإسلام: والغيبة في ميزان الإسلام حرام بإجماع المسلمين، للدلائل الواضحة الصريحة المنصوص عليها في الكتاب والسنة إذ يقول الله عز وجل: {ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله توّاب رحيم } (الحجرات: 12). وإذ يقول صلى الله عليه وسلم وقد مر بقبرين فقال: " إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير "، قال: " بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله "، () ويقول في خطبة يوم النحر بمنى في حجة الوداع: ".. إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت "، () " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم "، () " إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق "، () " المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه، وماله، ودمه، التقوى هاهنا، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ". () ويقول صلى الله عليه وسلم لعائشة، وقد قالت عن صفية حسبك من صفية كذا وكذا، يقول لها: " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ". () إلى غير ذلك من النصوص الواضحة الدلالة في ذم الغيبة، وتحريمها، وإن كان الحديث الأخير - كما يقول الإمام النووي رحمه الله: (من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئا من الأحاديث يبلغ في الذم لها هذا المبلغ ". () ومع حرمة الغيبة على النحو الذي ذكرنا فإنها تباح في أحوال ولأسباب هي: 1 - التظلم: فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان، والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيذكر أن: فلانا ظلمني وفعل بي كذا، وأخذ منى كذا، ونحو ذلك. وأطلب منك إنصافي ورد مظلمتي، إذ يقول سبحانه: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما} (النساء: 148). 2 - الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب: فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا فازجره عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوسل إلى إزالة المنكر فإن قصد غير ذلك كان مغتابا، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". () ومن التغيير باللسان الاستعانة بذوي القدرة على إزالة هذا المنكر. 3 - الاستفتاء: بأن يقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي أو فلان بكذا فهل له ذلك، أم لا؟ وما طريقي في الخلاص منه، وتحصيل حقي ودفع الظلم عني، ونحو ذلك؟ وكذلك قوله: زوجتي تفعل معي كذا أو زوجي يفعل كذا، ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة، والأحوط أن ينسب ذلك إلى غيره بصفته لا باسمه، بأن يقول: ما تقول في رجل كان من أمره كذا، أو في زوج أو زوجة تفعل كذا ونحو ذلك، فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع هذا فالتعيين جائز ولا يضر ما دام بهذا المقصد، أو بهذه النية. جاء في حديث هند بنت عتبة أم معاوية وامرأة أبي سفيان في رضي الله عنها قولها للنبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذ عليها العهد مع من أخذ يوم فتح مكة حين أسلمت ألا تسرق، فقالت: يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وبني إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فهل علي في ذلك جناح؟ فقال: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". () 4 - تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم: وذلك من وجوه: منها: جرح المجروحين من الرواة للحديث، وكذلك الشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة، فقد استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ائذنوا له، بئس أخو العشيرة "، () وقال صلى الله عليه وسلم في رجلين من المنافقين: " ما أظن فلانا، وفلانا يعرفان من ديننا شيئاً ". () ومنها: أنه إذا استشارك إنسان في مصاهرته، أو مشاركته أو إيداعه أو الإيداع عنده، أو معاملته بغير ذلك، وجب عليك أن تذكر له ما تعلمه منه على جهة النصيحة فان حصل الغرض بمجرد قولك: لا تصلح لك معاملته أو مصاهرته، أو لا تفعل هذا، أو نحو ذلك لم تجزئه الزيادة بذكر المساوئ، وإن لم يحصل الغرض إلا بالتصريح بعينه وجب ذكره بصريحه. جاء في حديث فاطمة بنت قيس أنها جاءت تستشير رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجلين خطباها، هما: معاوية، وأبو الجهم فقال صلى الله عليه وسلم: " أما معاوية فصعلوك، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه ". () ومنها: أنه إذا رأيت من يشتري عبدا معروفا بالسرقة، أو الزنا، أو الشرب أو غيرها فعليك أن تبين ذلك للمشتري إن لم يكن عالما به، ولا يختص بذلك بل كل من علم بالسلعة المبيعة عيبا وجب عليه بيانه للمشتري إذا لم يعلمه. ومنها: إذا رأيت متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخفت أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليك نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يكون القصد النصيحة، مجردة عن أي حظ من حظوظ النفس. ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها، إما بألا يكون صالحا لها، وإما بان يكون فاسقا أو مغفلا ونحو ذلك، فيجب ذكر هذا لمن له عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من يصلح، أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله، ولا يغتر به، وأن يسعف في حثه على الاستقامة أو خلعه واستبداله بمن يصلح، وجماع ذلك كله قوله صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة " قلنا: لمن؟ قال: " لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ". () ولا جرم أن نشير هنا إلى أنه ليس من هذا الباب: جرح الثقات المجاهدين من العلماء، والدعاة المصلحين الذين باعوا أنفسهم وما يملكون لله عز وجل، وتعرضوا في سبيل ذلك لأصناف شتى من المحن والابتلاءات حتى كان منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، من أمثال الشيخ محمد بن عبد الوهاب داعية التوحيد في هذا العصر، ومن أمثال الشيخ حسن البنا مجدد الإسلام في القرن الرابع عشر، ومن أمثال الشيخ سيد قطب الذي تحولت كلماته التي قالها في ظلال القرآن الكريم بعد أن مات في سبيلها إلى أحرف من نور، تضيء للسالكين الطريق، وتحملهم على التضحية، بالنفس والنفيس، الغالي والرخيص وغيرهم، ليس ذلك كله من هذا الباب بدعوى أنهم منافقون، أو مبتدعون، أو ذيول وأذناب للمستعمرين، إذ المنافق والمتبدع أو الذنب لا يقدم رقبته للموت، أو على الأقل لا يظل ماضيا في الطريق وإن لحقه من العنت والأذى ما لحقه، وتجريح هؤلاء فضلا عن أنه غيبة، فهو إما حسد وإما تلبيس وتخييل من الشيطان، وإما ضيق أفق وبله وغباء، وإما عمالة وخسة ونذالة. 5 - أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر أو مصادرة الناس وأخذ المكس وجباية الأموال ظلما وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما قدمنا آنفا. إذ يقول صلى الله عليه وسلم: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره الله، ويصبح يكشف ستر الله عنه ". () 6 - التعريف: فإذا كان الإنسان معروفا بلقب مذموم، كالأعمش والأعرج، والأصم، والأعمى، والأحول، والأفطس، وغيرهم، جاز تعريفه بذلك بغية التعريف، ويحرم إطلاقه على جهة النقض، ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى، وإذا أمكن التعريف بلقب واحد، من الألقاب المذمومة، فإن الزيادة على هذا اللقب تعد غيبة وهي حرام. إذ قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة، فقال رجل من الأنصار: والله ما أراد محمد بهذا وجه الله تعالى، فأتى ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فتغير وجهه وقال: " رحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر "، () يقول ابن مسعود: فقلت: لا أرفع إليه بعد هذا حديثا. وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس فيه شدة، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فأرسل إلى عبد الله بن أبي وذكر الحديث، فأنكر وكذب زيد بن أرقم، وأنزل الله تصديق زيد بن أرقم في قوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك رسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} (المنافقون:1). () ثالثا: أسباب الوقوع في الغيبة وهناك أسباب كثيرة وبواعث عدة تدفع إلى الوقوع في الغيبة وأهم هذه الأسباب وتلك البواعث: 1 - عدم التثبت أو التبين: ذلك أن الحكم على الأمور والأشخاص بالسوء دون طلب للدليل وفحص له والتأكد من صحته، والموازنة بينه وبين الظروف المحيطة والواقع المعاش - وهو ما يعرف بعدم التثبت أو التبين - قد يكون من بين الأسباب أو البواعث التي تدفع بالمسلم إلى أن يقع في الغيبة، وصدق الله إذ يقول: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}(الحجرات: 6). 2 - الغضب: وقد يكون الغضب من بين الأسباب أو البواعث التي تدفع إلى الوقوع في الغيبة، ذلك أن الإنسان إذا غضب من إنسان وهيج هذا الغضب، ولم يكن هناك وازع من دين أو خلق فإن لسانه يسبق إلى غيبة هذا الإنسان من باب التشفي وإراحة النفس. وأحيانا يمتنع الإنسان من التشفي وإراحة النفس عند الغضب لسبب أو لآخر، فيحتقن الغضب في الباطن فيصير حقدا ثابتا كامنا في النفس، الأمر الذي يؤدي إلى ذكر العيوب والمساوئ، وهذه هي الغيبة بعينها. ولعل هذا من بين الأسرار التي من أجلها دعا الإسلام إلى كظم الغيظ ومقاومة الغضب، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: " من كتم عيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين، يزوجه منها ما شاء ". () 3 - البيئة ا لمحيطة قريبة كانت أو بعيدة: وقد تكون البيئة المحيطة قريبة كانت - ونعني بها البيت - أو بعيدة - ونعني بها مجتمع الأصدقاء - هي السبب في الوقوع في الغيبة، ذلك أن الإنسان شديد التأثر ببيئته، ولا سيما إذا كان في مرحلة الإعداد والبناء. وعليه فإذا وجد في بيئة لا ترعى للغائب حقه ولا حرمته فإنه يحاكيها، بل ربما وسوس له الشيطان وسولت له نفسه أن الإنكار على هذه البيئة أو قطع هذا المجلس قد يؤدي إلى استثقاله والنفور منه فيجاري، ويرى ذلك من حسن المعاشرة وتمام المجاملة، وأبعد من ذلك غضبه لغضب رفاقه، والخوض في ذكر معايب ومساوئ الغائبين إظهارا للمشاركة والمساهمة في السراء والضراء. 4- الحسد: ذلك أن الإنسان قد يحسد من يثني الناس عليه ويجلونه ويكرمونه، متمنيا زوال نعمته، ولا يجد سبيلا لتحقيق هذه الأمنية إلا بالطعن فيه والنيل منه حتى تسقط منزلته ومكانته عند الناس وهذه هي الغيبة المحظورة أو المحرمة. ولعل هذا من الأسرار التي من أجلها نهى الإسلام عن الحسد، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: " لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً "، () " الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ". () 5 - الإعجاب بالنفس حد الغرور والتكبر: ذلك أن الإنسان قد تعجبه نفسه إلى حد الغرور والتكبر، فيحاول وصفها بالرفعة وعلو المنزلة والمكانة على حساب غيره، فيتناول هذا الغير بالانتقاص والطعن فيقول: فلان جاهل وفهمه ركيك، وكلامه هزيل أو ضعيف لا يحسن أن يبين به عما في نفسه -كما قال هذا الطاغية الجبار فرعون عن موسى عليه السلام وقصده بذلك أن يرفع من قدر نفسه: {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مُقترنين}(الزخرف:52-53). 6 - محاولة تبرئة النفس من التهمة والعيب: وذلك أن الإنسان قد توجه إليه بعض التهم وتلصق به بعض العيوب ويحاول أن يبرئ نفسه من هذه وتلك، فيخطئ السبيل، وبدل أن يثبت عكس التهمة بسلوكه الحميد، وخلقه الطيب أو عن طريق الشهود الثقات الأثبات، يلجأ إلى الطعن والنيل ممن اتهمه وعابه وهذه هي الغيبة المحرمة. وصلى الله وسلم وعظم وبارك على الأنبياء والمرسلين وعلى رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كانت توجه إليهم الطعون وتلصق بهم التهم، فكانوا يصبرون ويحتسبون ويمضون في طريقهم إلى نهايتها، مفوضين الأمر كله لله قائلين: " حسبنا الله ونعم الوكيل " وقد اقتدى بهم أتباعهم في كل عصر ومصر ومن كل جيل وقبيل، وشغلوا أنفسهم بالله وطاعته عن الطعن والنيل من خصومهم وأعدائهم، ويوم القيامة سيكون فوزهم وربحهم وخسارة أعدائهم وخصومهم بسبب ما كانوا يصنعون كما قال سبحانه:{اخسئوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون} (المؤمنون:108-111). 7 - استشعار الطعن من الآخرين: وقد يستشعر المسلم أن الآخرين سيتوجهون إليه بالطعن والعيب، فيحاول أن يبادرهم قبل أن يبادروه وأن يبادئهم قبل أن يبادئوه، فيقبح من حالهم أو يذكر بعض ما فيهم من خير، ويتخذه سبيلا للطعن فيهم والنيل منهم فيقول: ليس من عاداتي الكذب وقد أخبرتكم بكذا وكذا من أحوالهم فكان كما قلت، ويبني على ذلك ما يريد من الطعن فيهم والنيل منهم ولا سيما في غيابهم، فيقع في آفة الغيبة المحظورة أو المحرمة. 8 - المزاح أو التفكه: وقد يذكر المرء عيوب الآخرين ولا سيما في غيابهم، من باب المزاح والتفكه ومحاولة تضييع الوقت وإضحاك الآخرين، ناسياً أنه بذلك يأكل لحوم الناس، وناسياً حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفاً في النار ". () 9 - عد م الدقة في التعبير وتصوير المراد: ذلك أن المسلم قد يرى من آخر ثباتا في حق أو صبرا على بلاء، في أهل، ومال، وولد، وعشيرة، فيتعجب من صنيعه هذا أو يشفق عليه، ويغضب فيه لله، ويحاول أن يعبر عن ذلك وأن يصوره، فلا يوفق، إذ بدل أن يذكره بصفته، يذكره باسمه، ويعيب عليه أنه كان ينبغي أن يصنع كذا وكذا، وما درى ظروفه أو الملابسات التي أحاطت به، فيكون له بذلك مغتابا. وقد جاء في الحديث: أن رجلا مر على قوم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليهم، فردوا عليه السلام، فلما جاوزهم قال رجل منهم: إني لأبغض هذا في الله تعالى، فقال أهل المجلس: لبئس ما قلت، والله لننبئنه، ثم قالوا: يا فلان - لرجل منهم - قم فأدركه فأخبره بما قال: فأدركه رسولهم، فأخبره، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكى له ما قال، وسأله أن يدعوه له، فدعاه وسأله، فقال: قد قلت ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم تبغضه؟ "، فقال: أنا جاره وأنا به خابر، والله ما رأيته يصلي صلاة قط، إلا هذه المكتوبة، قال: فاسأله يا رسول الله: هل رآني أخرتها عن وقتها، أو أسأت الوضوء لها أو الركوع أو السجود فيها؟ فسأله، فقال: لا. فقال: والله ما رأيته يصوم شهرا قط إلا هذا الشهر الذي يصومه البر والفاجر، قال: فاسأله يا رسول الله: هل رآني قط أفطرت أو نقصت من حقه شيئا؟ فسأله عنه، فقال: لا، فقال: والله ما رأيته يعطي سائلا، ولا مسكينا قط ولا رأيته ينفق شيئاً من ماله في سبيل الله، إلا هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر، قال: فاسأله: هل رآني نقصت منها أو ماكست فيها طالبها الذي يسألها؟ فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل: " قم فلعله خير منك ". () 10 - العمل الحساب أفراد أو جهات مشبوهة: وقد يكون العمل لحساب أفراد أو جهات مشبوهة معروفة بالحقد على الإسلام وأهله، طمعا في عرض زائل من أعراض هذه الحياة الدنيا، هو السبب في الوقوع في آفة الغيبة، على النحو الذي نشهده الآن من الطعن في أبناء الحركة الإسلامية، ومحاولة إلصاق التهم والعيوب بهم، لا لشيء إلا لأنهم باعوا أنفسهم، وما تملك هذه النفوس لله عز وجل، وممن؟ من أناس ذوي لحى، وعمائم، وسواك، وثياب قصار وقد أرخوا ذوائبهم من وراء ظهورهم، واعتلوا المنابر، وتصدروا للفتوى، إنه لا تبرير لذلك سوى العمالة، سواء أكانوا يقصدون أم لا يقصدون، إذ لا يستفيد من مثل هذا الطعن وذلك النيل والعيب إلا أعداء الله. 11 - عدم قيام الأمة بواجبها نحو المغتابين: وقد يكون عدم قيام الأمة بواجبها - حكاما أو محكومين - نحو المغتابين، من الأسباب إلى تفتح الطريق أمام هذه الآفة حتى تشيع وتنتشر في الناس. ذلك أن واجب الأمة نحو المغتابين يقضي: أ - بعدم السماع أو الاستحسان لما يصدر عن هؤلاء المغتابين. ب - وزجر أولئك وتخويفهم من عقاب الله في الدنيا والآخرة. ج - ومقاطعة مجالسهم، والإعراض التام عنهم، وإلا فالإنكار، والبغض القلبي. د - ثم دعوتهم إلى أن يشتغلوا بعيوبهم عن عيوب الناس " طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ". وما لم يرع هذا الواجب يكون الوقوع في آفة الغيبة. 12 - سلوكيات أو تصرفات الآخرين الغير محسوبة، ولا سيما إذا كان هؤلاء من ذوي الأسوة والقدوة: وقد تكون سلوكيات أو تصرفات الآخرين الغير محسوبة من بين الأسباب التي تؤدي إلى الوقوع في الغيبة. ولعل هذا من بين الأسباب التي من أجلها دعا الإسلام إلى ترك المعاصي وإن كانت صغيرة، واتقاء الشبهات، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: " إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه "، وضرب صلى الله عليه وسلم لهن مثلاً: " كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادا، فأججوا نارا، وأنضجوا ما قذفوا فيها "، () " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "، () " الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه، وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه ". () وحين يبتلى المسلم بشيء من المعاصي أو الشبهات، فإن عليه أن يستتر فلا يعلن أو يجاهر، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا، وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه ". () 13 - عدم تقدير العواقب المترتبة على الغيبة: وأخيرا قد يكون عدم تقدير العواقب المترتبة على الغيبة هو السبب في الوقوع في آفة الغيبة، إذ الإنسان -كما قدمنا في سائر الآفات التي مضت -إذا نسي عواقب الشيء الضارة، وآثاره المهلكة تجرأ عليه، وواقعه، بل ربما لا يستطيع الانفكاك والتحول عنه. وإلى هذا أشار رب العزة في قوله سبحانه: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما}(طه:115)، {إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحسـاب} (ص:26). رابعا: آثار الغيبة: وللغيبة آثار ضارة، وعواقب مهلكة، سواء أكان ذلك على العاملين، أم على العمل الإسلامي، ودونك طرفا من هذه الآثار، وتلك العواقب. أ - على العاملين: فمن آثار الغيبة الضارة، وعواقبها المهلكة على العاملين: 1 - قسوة القلب: ذلك أن المغتاب كثير الكلام بغير ذكر الله، لأنه وقّاع في أعراض الناس، أكال للحومهم، ومن كثر كلامه بغير ذكر الله قسا قلبه، فلم يوفق لخير أبدا، وإن وفق فإنما هو توفيق الجوارح، لا توفيق القلوب، ولهؤلاء من ربهم الويل كل الويل كما قال سبحانه: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} (الزمر: 22). 2 - التعرض لسخط الله وغضبه: وذلك أن المغتاب قد تطاول بهذه الغيبة على حدود الله، وأتى منكرا من القول وزورا، والتطاول على حدود الله، وإتيان المنكر من القول والزور مما يعرض لغضب الله، وسخطه كما جاء في حديث أبي هريرة، عنه رضي الله عنه أنه قال: " وان العبد يتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم ". () 3 - العذاب الشديد ولا سيما في القبر: وذلك أن المغتاب يضيع حسناته إن كانت له حسنات بل تتكاثر عليه السيئات، الأمر الذي يعرضه للعذاب الشديد ولا سيما في القبر، وأقل شيء في هذا العذاب تشويه الوجه، فقد مر صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالغيبة والنميمة ". () وقال لأصحابه: " أتدرون ما المفلس؟ " قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: " إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار ". () وقال صلى الله عليه وسلم: " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم ". () 4 - عدم القدرة على القيام بالواجبات: وذلك أن المغتاب يبدّد طاقاته في أكل لحوم الناس، وإذا بددت طاقات الإنسان عجز عن القيام بالمهام المنوطة، والواجبات المفروضة. ولعل هذا من بين الأسرار التي من أجلها دعا الإسلام إلى الصبر وكظم الغيظ، فقال سبحــانه: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} (النحل:126)، {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} (البقرة: 153)، {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا} (آل عمـران: 250)، {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس} (آل عمران: 134). 5 - الجبن: وذلك أن الغيبة في حدّ ذاتها مظهر من مظاهر الجبن، وإلا لواجه المغتاب أخاه بعيبه، ونصحه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبمرور الوقت تثمر الغيبة آفة الجبن، والضعف، وعدم القدرة على المواجهة، الأمر الذي يؤدي إلى انتفاش الباطل وانتفاخه وتحول الأرض إلى جورة من الشر والفساد، كما قال سبحانه: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا} (الحج: 40)، {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} (البقرة: 251). ب - على العمل الإسلامي، وأما آثار الغيبة الضارة وعواقبها المهلكة على العاملين فإنها تتلخص في: 1 - الفرقة والتمزق: الأمر الذي يؤدي إلى شيوع الشر والفساد وطول الطريق، وكثرة التكاليف وتمكن العدو من رقابنا، ذلك أن الغيبة تؤدي إلى قول الزور، وقول الزور يؤدي إلى البهتان، والبهتان يؤدي إلى الخصومة، ثم التدابر والقطيعة، أو الفرقة. ولعل هذا هو ما عناه سهل بن عبد الله حين قال: من أراد أن يسلم من الغيبة، فليسد على نفسه باب الظنون، فمن سلم من الظن سلم من التجسس، ومن سلم من التجسس سلم من الغيبة، ومن سلم من الغيبة سلم من الزور، ومن سلم من الزور سلم من البهتان ". () 2 - فتح الطريق أمام الناشئة والبسطاء من الناس للوقوع في هذه الآفة: ذلك أن الناشئة والبسطاء من الناس فيهم حب الاقتداء والتأسي، أو على الأقل المحاكاة أو التشبه، فإذا كان الجو الذي يحيط بهم ملوثا بالغيبة، وليس لديهم حصانة أو رصيد يقوم على مراقبة الله والخوف منه، فإنهم لا محالة سيشاركون، إما اقتداءً وتأسياً، وإما محاكاة ومشابهة، وكأننا بذلك نفتح المجال أمامهم لتدنس نفوسهم، وتفسد قلوبهم، وحينئذ يكون البوار والخسران المبين. خامسا: علاج الغيبة: وما دمنا قد وقفنا على أسباب الوقوع في الغيبة، وأدركنا آثارها الضارة، وعواقبها المهلكة، فقد صار من السهل علينا رسم طريق العلاج، بل الوقاية من هذه الآفة، وتتلخص في: 1 - تربية ملكة تقوى الله، ومراقبته في النفس، وإن هذه الملكة إن نبتت، ورسخت في النفس تحمي صاحبها من أكل لحوم الناس، بل قد تدفعه أن يصون أعراض الآخرين من أن تنتهك في مجلسه وهو ساكت لا يفعل شيئاً، ولعل هذا الدواء هو الوارد في ذيل آية تحريم الغيبة في سورة الحجرات، إذ ختمت الآية بقوله سبحانه: {واتقوا الله إن الله توّاب رحيم} (الحجرات: 12). 2 - أن يضع المسلم في حسابه أن كل ما يتفوه به مكتوب ومحسوب عليه، إذ يقول سبحانه: {ما يلفظ من قول إلاّ لديه ريب عتيد} (ق: 18). ولأن تحسب له كلماته التي يتفوه بها، خير من أن تحسب عليه. 3 - التثبت أو التبين في الحكم على الأشياء والأشخاص بل وفي نقل هذا الحكم، وإشاعته بين الناس حفاظا على أعراض الناس، وإبقاءً على رابطة الأخوة، إذ يقول سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} (الحجرات:6). 4 - كظم الغيظ، ومقاومة الغضب على اعتبار أن الغضب من أسباب الوقوع في الغيبة كما قدمنا، يقول سبحانه: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} (آل عمران:134)، {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} (الشورى:43). ويقول صلى الله عليه وسلم: " من كتم غيظا، وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق، حتى يخيره من الحور العين، يزوجه منها ما شاء ". () 5 - العمل على سلامة البيئة قريبة كانت أو بعيدة من مثل هذه الآفة، حتى لا يكون هناك مجال للاقتداء أو للمحاكاة بما هو ضار وموبق في الحياتين جميعا: الدنيا والآخرة. 6 - التبصير بالسبيل الصحيحة لتبرئة النفس من التهم أو الطعون الموجهة إليها، بأن يواجه المسلم التهم أو الطعون الموجهة إليه بالسلوك الحميد، والخلق الطيب، أو بواسطة الشهود الثقات الأثبات، دون لجوء إلى غيبة من اتهمه وطعن فيه. 7 - دعوة ذوي الأسوة والقدوة أن تكون تصرفاتهم دقيقة ومحسوبة، وإلا اقتدى بهم الآخرون، وكانت شرور ومفاسد لا يعلم عقباها إلا الله عز وجل. وإليك ما نبه إليه الإمام النووي - رحمه الله - في هذا الأمر، إذ يقول: اعلم أنه يستحب للعالم، والمعلم، والقاضي، والمفتي، والشيخ المربي، وغيرهم ممن يقتدي به، ويؤخذ عنه: أن يجتنب الأفعال، والأقوال، والتصرفات التي ظاهرها خلاف الصواب وان كان محقا فيها ؛ لأنه إذا فعل ذلك ترتب عليه مفاسد من جملتها: توهم كثير ممن يعلم ذلك منه أن هذا جائز على ظاهره بكل حال، وأن يبقى ذلك شرعاً، وأمرا معمولا به أبدا، ومنها: وقوع الناس فيه بالتنقص، واعتقادهم نقصه وإطلاق ألسنتهم بذلك، ومنها: أن الناس يسيئون الظن به، فينفرون عنه، وينفرون غيرهم عن أخذ العلم عنه، وتسقط رواياته، وشهادته، ويبطل العمل بفتواه ويذهب ركون النفوس إلى ما يقوله من العلوم، وهذه مفاسد ظاهرة، فينبغي له اجتناب أفرادها، فكيف بمجموعها؟ فإن احتاج إلى شيء من ذلك، وكان محقا في نفس الأمر لم يظهره، فإن أظهره أو ظهر أو رأى المصلحة في إظهاره ليعلم جوازه، وحكم الشرع فيه، فينبغي أن يقول: هذا الذي فعلته ليس بحرام، أو إنما فعلته لتعلموا أنه ليس بحرام إذا كان على هذا الوجه الذي فعلته، وهو كذا، وكذا، ودليله: كذا، وكذا. روينا في صحيحي البخاري، ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر، فكبّر، وكبّر الناس وراءه، فقرأ، وركع، وركع الناس خلفه، ثم رفع، ثم رجع القهقري، فسجد على الأرض. ثم عاد إلى المنبر حتى فرغ من صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: " أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي ". والأحاديث في هذا الباب كثيرة. () 8 - وجوب السؤال عن التصرفات التي ظاهرها مجانبة الصواب قبل الوقوع في أصحابها بالغيبة، فلعل لهؤلاء مبررا، أو وجهة نظر فيما وقع منهم مجانبا للصواب، ولا سيما وكل واحد في الناس يؤخذ منه، ويرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك يقول الإمام النووي - رحمه الله: (اعلم أنه يستحب للتابع إذا رأى من شيخه وغيره ممن يقتدى به في ظاهره للمعروف، أن يسأله عنه، بنية الاسترشاد، فإن كان قد فعله ناسيا تداركه، وإن كان فعله عامدا، وهو صحيح في نفس الأمر تنبه له، فقد روينا في صحيحي البخاري، ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال، ثم توضأ فقلت: الصلاة يا رسول الله. فقال: " الصلاة أمامك ". يقول الإمام النووي معقبا على ذلك: " إنما قال أسامة ذلك؛ لأنه ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم نسي صلاة المغرب، وكان قد دخل وقتها قبل خروجه ". () وفي صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، فقال عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، فقال: " عمدا صنعته يا عمر ". () 9 - قيام الأمة بواجبها نحو المغتابين بألا تسمع لهؤلاء، بل عليها أن تزجرهم بكل ما تملك من أساليب ووسائل، ومن أبرز هذه الأساليب وتلك الوسائل رد غيبة هؤلاء، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من رد عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة "، () " ما من امرئ خذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته "، () " من حمى مؤمنا من منافق، بعث الله تعالى ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مسلما بشيء يريد شينه حبسه الله على جسر جهنم، حتى يخرج مما قال ". () وعلى ولي الأمر بالذات لفت نظر المغتابين إلى خطورة الغيبة وضررها على الفرد، والجماعة، فإن لم ينزجروا أنذرهم، ثم عزرهم، وبذلك يقضي على الشر من أساسه، ويقتل السوء في مهده. 10 - التذكير الدائم بعواقب الغيبة في الدنيا والآخرة، سواء أكان ذلك على العاملين، أم على العمل الإسلامي، فإن الإنسان ينسى، وعلاج النسيان إنما يكون بالتذكير: {وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين} (الذاريات: 55).
مختارات