" استراحة سلفية إيمانية "
" استراحة سلفية إيمانية "
ولهذا الذي تقدم من حياة طيبة، وحفظ في الدارين، وبشارة بالجنة، التي فيها ما تلذ الأعين، وتشتهي الأنفس، وتطمئن على الماضي والمستقبل، وثقة بالله ويقين بذلك كله أقول: لما فقه السلف الصالح ذلك جيدًا، وعلموا ما أعده الله للمستقيم على شرعه، والمحافظ على دينه، ولمحبتهم لله ورسوله ولدينه هانت عليهم الدنيا وما فيها، ورخصت عندهم الحياة، فضحوا رضى الله عنهم بالغالي والنفيس؛ ضحوا بالمال، والدور، والعقار، والأرض... فكانت الهجرة؛ ضحوا بالأهل والولد، وتقاسموا الأرض والزوج... فكانت الدعوة والنصرة! بل ضحوا بأنفسهم وقدموها رخيصة في سبيل الله فكان الجهاد.
من ذا الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
فاشتروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله، قال تعالى: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ " [البقرة: 207] طلقوا الدنيا ثلاثًا، طلاقًا بائنًا لا رجعة فيه:
إن للــه عبـــادًا فطنًــــا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي سكنًا
جعلوهــا لجــة واتخذوا صالح الأعمل فيها سفنا
تركوا الدنيا لأهلها، وأخذوا منها ما يبلغهم الدار الآخرة، ويقويهم على الطاعة، ويعينهم على العبادة، ويثبتهم على الاستقامة، ويكون عونًا لهم على الدعوة والجهاد في سبيل الله؛ ورضى الرحمن؛ قال تعالى: " وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " [القصص: 77] جعلوا الآخرة همهم وطاعة الله ورضاه غايتهم، فأتتهم الدنيا بأسرها وهي راغمة ودانت لهم الأرض وساسوا الخلق، فأصبحوا قادة وسادة الأمم بعد أن كانوا رعاة غنم – رضي الله عنهم أجمعين – وما قصة ربعي بن عامر البدوي الأعرابي، ذاك الرجل البسيط، ممزق الثياب، مثلوم الرمح والسيف، ذي الفرس الهزيل مع (رستم) قائد الفرس، وأمير الجند، ذي السلطان والقوة والمنعة والجبروت والأبهة والاحترام والهيبة- أقول: ما قصته وعزته ورفعته عنك – أخي القارئ الكريم – ببعيد، ولا بأس من ذكرها كاملة للعبرة والفائدة، ولتعلم كيف تصنع الاستقامة من الحفاة العراة الرُّحَّل البدو، وكيف تَرْفع من شأنهم في الدنيا والآخرة:
(يخرج " ربعي " ليدخل على رستم، فأوقفه عسكره وأخبروا (رستم) بمجيئه، فاستشار عظماء قومه فأشاروا عليه بالتباهي وإظهار الخيلاء والفخر والقوة والمنعة، فزين مجلسه بالنمارق (الوسائد) المذهبة، والزَّرابيِّ الحرير، واللآلئ الثمينة والرزينة العظيمة، ولبس تاجه المزخرف وجلس على سرير من ذهب، فدخل ربعي بثيابه المرقعة، وفرسه القصير، وسيفه وترسه، ولم يزل راكبًا حتى مشى على طرف البساط، ثم نزل بها، وربطها ببعض الوسائد ولم يستطيعوا أن ينكروا عليه، فأقبل ومعه سلاحه! فقالوا: ضع سلاحك، قال: إني لم آتكم بل أنتم الذين دعوتموني؛ فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت !! قال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه المثلم فوق النمارق، فخرقها، فقيل: ما حملك على هذا؟ قال: إنَّا لا نستحب القعود على زينتكم هذه ! ثم جلس، فقال له رستم: ما جاء بكم؟ فقال – رضي الله عنه – كلمته المشهورة، التي حفظها التاريخ، ورددتها الأجيال، ووعاها الزمان، قالها بفطرته السليمة، وعقيدته القوية: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله» قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى، وبعد ذلك حصل نقاش حول إمهالهم ثلاثة أيام إما أن يسلموا، أو الجزية، أو القتال (وانظر: قصته في تاريخ الطبري) والشاهد منها: ثبات ربيعي – رضي الله عنه – وعزته بدينه واستقامته عليه وعدم التفاته واغتراره بما عليه الأعداء.
قال تعالى: " لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ " [آل عمران: 196] فلا يغيره ترغيب ولا ترهيب؛ بل الدين عنده أغلى من كل شيء!! ولهذا بين هدفه وغايته هو وأصحابه من القتال والجهاد؛ ألا وهو إخراج الناس من الشرك والكفر إلى التوحيد والحق.
أقول: بذل سلفنا الصالح النفس والنفيس من مال وأهل وولد في سبيل الله ومن أجل الحفاظ على هذا الدين والاستقامة عليه، كيف لا وقائدهم ومربيهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي ضحى بنفسه وماله وأهله وجاهه بل حتى بدعوته المستجابة ادخرها لنا ولم يصرفها كما فعل من قبله الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (انظر: «أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم» للشيخ: عبد المحسن العباد) فلكل نبي دعوة مستجابة دعا بها إلا رسول الله؛ ادخرها لأمته صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة – إن شاء الله – من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا» (انظر: مختصر مسلم وصحيح الجامع) ولهذا تعلّم منه السلف واقتدوا به صلى الله عليه وسلم في ذلك، وسيرته خير شاهد على بذله وعطائه واستقامته؛ فقد كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان القمة في البذل والعطاء والإنفاق والتضحية لدين الله بكل ما يملك، ويكفيك مطالعة أي كتاب من كتب السيرة؛ لنتعلم منه القدوة والأسوة – عليه الصلاة والسلام (وأنصح بمطالعة: «صحيح الشمائل المحمدية» للترمذي تحقيق الألباني – رحمهما الله - «الرحيق المختوم» للمباركفوري، «زاد المعاد في هدي خير العباد» لابن القيم).
مختارات