" ماذا عن اليوم الآخر ؟ "
" ماذا عن اليوم الآخر؟ "
يوم القيامة يوم عظيم أمره، شديد أهواله، طويل مداه، لا يلاقي العبد مثله؛ لأجل ذلك لن يكون حديثنا عنه سوى إشارات ووقفات؛ لأننا مهما اجتهدنا في ذكر وصفه وأحواله لن نصل إلا الإحاطة بكل ما ورد من خبره في كتاب وسنة، ولن نتمكن من استقصاء جميع أحواله وتتبعها ولكن فيما سنذكره ذكرى وتنبيه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
بداية ذلك اليوم تكون بالنفخ في الصور، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل فيعيد الله الأرواح إلى أجسادها بعد أن أنبتها وأنشأها بعد الفناء كما صحَّت بذلك الأحاديث، فيعيد الله العبادَ أنفسهم الذين كانوا في الدنيا، ولكنهم بخصائص وصفات غير التي كانوا عليها في الحياة الدنيا، فمن ذلك أنهم لا يموتون مهما أصابهم: " وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ " [إبراهيم: 17] ومن ذلك: إبصارهم أمورًا ما كانوا يستطيعون إبصارها في الدنيا كالملائكة والجن وغير ذلك ما الله به عليم.
ينطلق الناس من قبورهم ويقومون قومة رجل واحد متجهين اتجاهًا واحدًا ليس فيه يمنة ولا يسرة مسرعين، قال تعالى: " يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ " [طه: 108] وقال تعالى: " يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ " [المعارج: 43] يخرجون حُفاة عُراةً غُرلاً – غير مختونين.
ولشدة هول ذلك اليوم تشخص أبصار العُصاة والظَلَمة، فلا تطرف أبدًا وتصبح أفئدتهم خالية وتعي ولا تعقل، " وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ " [إبراهيم: 42، 43].
بل وترتفع القلوب لدى الحناجر من شدة الخوف والهلع " وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ " [غافر: 18] أي: ساكتين لا يتكلمون.
فيجمع الله الأولين والآخرين في ذلك اليوم في مكان واحد هو أرض المحشر، وهي أرض غير الأرض التي نحن عليها، قال تعالى: " يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ " [إبراهيم: 48].
وكما جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء، عفراء -أي: بيضاء إلى حُمرة- كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد».
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «تذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها، وتمد مد الأديم العكاظي».
ويكون تبدل هذه الأرض بعد الدمار الكوني الشامل الرهيب الذي يصيب الأرض وجبالها، والسماء ونجومها وكواكبها. فقد حدثنا القرآن أن: الأرض تزلزل وتدك، والجبال تسير وتنسف، والبحار تُفجر وتُسجر، والسماء تتشقق وتمور، والشمس تُكور ويذهب ضوؤها، والقمر يخسف، والنجوم يذهب ضوؤها وينفرط عقدها وتتناثر.
والأمر هائل عظيم، وكما قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الخبر كالمعاينة» [رواه أحمد وإسناده صحيح].
والملائكة تحيط بذلك الموقف الرهيب فتنـزل صفوفًا صفوفًا من أرجاء السماء المنشقة.
هذا بعض ما جاء في شأن مكان ذلك اليوم، وأما زمانه ومدته فهو خمسون ألف سنة، قال تعالى: " تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ " [المعارج: 4].
ولطول ذلك اليوم يظن الناس أنهم لم يلبثوا في الحياة الدنيا إلا ساعةً من نهار استقصارًا لها بالنسبة لطول ذلك اليوم وهوله، وتغير مراحله، قال تعالى: " وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ " [يونس: 45]، " وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ " [الروم: 55].
أما السمة الظاهرة على كل الناس في ذلك اليوم أن كلاً منهم مهتم بنفسه فقط، ولا يلتفت إلى غيره مهما كان ذلك الغير عزيزًا لديه في الدنيا، بل إنه يفر من أحب الناس إليه، وأعظم من ذلك أنه يسعى لفكاك نفسه من العذاب ولو بتقديم أقرب الناس إليه فدية عنه.
قال تعالى: " فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه " [عبس: 33-37].
وقال تعالى: " يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُئْوِيهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ " [المعارج: 11-14].
الطابع العام لذلك اليوم والأصل فيه أنه يوم شاق عسير طويل كما وصفه الله تعالى في القرآن: " يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا " [الدهر: 10]، " يَوْمٌ عَسِرٌ " [القمر: 8] والعذاب فيه واقع: " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ " [المعارج: 1].
إلا أنه جاءت بعد تلك الآيات ما يدل على أنه يُهون وييسر على أقوام دون آخرين كما قال تعالى: " عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ " [المدثر: 10] فيُفهم أنه ييسر على المؤمنين، وكذلك جاءت نصوص السنة على أن ذلك اليوم يَقصُر على أهل الإيمان والعمل الصالح، وأن العذاب مدفوع عنهم، وهذا يفهم من قوله تعالى: " لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ " [المعارج: 2].
والمقصود أن الناس عندما يخرجون من قبورهم في خضم ذلك الهول العظيم المفزع تتفاوت أحوالهم، ويتميزون كلٌّ حسب إيمانه وعمله.
أما المؤمنون وأهل العمل الصالح:
فتتلقاهم الملائكة تهدئ من روعهم وتطمئنهم، قال تعالى: " لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ " [الأنبياء: 103].
والسر في الأمن أن قلوبهم كانت في الدنيا عامرة بمخافة الله تعالى ومن الوقوف بين يديه كما قال عز وجل عنهم: " إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا " [الدهر: 10].
" وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ " [المعارج: 27، 28].
وكما أخبرنا الله عز وجل أنَّ جزاءهم من جنس عملهم فقال: " فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا " [الدهر: 11].
وفي الحديث عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع فيه عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع فيه عبادي» [رواه أبو نعيم بإسناد حسن].
ثم إنهم يكسون الثياب الكريمة ليتم لهم الشعور بالأمن.
وبعد ذلك تُعد لهم المراكب بحسب أعمالهم الصالحة، تحمل كلاً منهم إلى مقامه الأمين ومقاعد العز والشرف.
فمنهم المظلل تحت ظل عرش الرحمن وقاية له من الشمس وحَرِّها التي تدنو من رءوس العباد في ذلك اليوم مقدار ميل، فلا يعانون من الكربات التي يقاسي منها الآخرون، ومنهم السبعة الذين جاء الحديث المتفق عليه بذكرهم، وهؤلاء هم أصحاب الهمم العالية والعزائم الصادقة.
وممن يظلل غير السبعة ممن دلت عليهم النصوص:
* كمن أنظر مٌعسرًا أو وضع عنه، لحديث عند مسلم.
* ومن غزا مجاهدًا، لحديث عند ابن حبان وغيره بسند جيد.
* ومن أعان مجاهدًا، لحديث عند أحمد والحاكم بسند جيد.
* ومن أرفد غارمًا، ومن أعان مكاتبًا، لحديث أحمد والحاكم المشار إليه آنفًا.
* ومن كان تاجرًا صدوقًا، لحديث عند البغوي بسند جيد.
* ومنهم صاحب القرآن وبالأخص أهل سورة البقرة وآل عمران، كما جاء في الحديث أنهما تظلان صاحبهما كغمامتين أو غيايتين أو فرقين من طير.
* ومن المؤمنين في ذلك الموقف المرفوع على منابر النور، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المقسطون عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا».
* ومنهم من تحل به كرب يوم القيامة بسبب ذنوبه ومعاصيه، فيأتيه عمله الصالح في تفريج كرب إخوانه المسلمين في الدنيا فيفرج عنه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نَفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نَفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يَسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».
وحديث: «من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة».
ويمتاز المؤمنون من هذه الأمة الذين استجابوا لله وللرسول، وأقاموا الصلاة وأتوا بالوضوء كما أمرهم بعلامة شرف وكرامة وهي أنهم يأتون غرًا محجلين من أثر الوضوء، والمراد به النور الكائن في وجوههم وأطرافهم، ثم إنهم يحلون بالحلل في تلك المواضع.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء».
أما صاحب القرآن، فقد جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول القرآن: يا ربِّ حله، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه فيرضى عنه».
هذه بعض أحوال أهل الإيمان والتقى في ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه الإنسان مال ولا جاه ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم من الشرك مع زاده من الإيمان والعمل الصالح.
ولا بد لنا بعد ذلك من إيراد وبيان بعض أحوال العصاة وما يلقونه نتيجة معاصيهم في ذلك اليوم، إن ماتوا على غير توبة أو أن الله عز وجل لم يغفر لهم قبل ذلك.
وبالجملة، فإن كل من مات من أهل التوحيد، وقد اقترف ما يسخط الله، ولم تكفر ذنوبه تلك قبل موته بشيء من المكفرات، فهو تحت مشيئة الله عز وجل، إما أن يغفر له أو يعذبه، وعذابه هذا يصيبه من بعد موته.
وللعصاة عذاب في أرض المحشر كما جاء في حال مانع الزكاة، مع ما يصيبه من أهوال القيامة، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة، صفِّحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت عليه، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار».
وقد يدخل العاصي النار، ويلبث فيها حتى يطهر، ثم يخرج منها كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يعذب ناس من أهل التوحيد في النار، حتى يكونوا فيها حُممًا، ثم تدركهم الرحمة، فيخرجون، فيطرحون على أبواب الجنة» قال: «فيرش عليهم أهل الجنة الماء، فينبتون كما ينبت الغثاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة» [رواه الترمذي وغيره بإسناد صحيح].
فالواجب على المسلم أن يسعى لما يكون سببًا في نجاته يوم القيامة، وأن يبادر بالتوبة من كل ما يغضب الله – عز وجل – ما دام في زمن الفسحة والمهلة قبل أن يندم على تفريطه وتسويفه، ويتمنى الرجعة للدنيا ليعمل الصالحات، أو يتمنى أن يُزاد له في العمر حينما يعاين ملائكة الموت، وقد نزلوا لقبض روحه، ولكن الله – عز وجل – يقول: " وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " [المنافقون: 11].
ولقد تكاثرت نصوص الكتاب والسنة ببيان جزاء أعمال أتى بها أصحابها وذلك في يوم القيامة وقبل الانصراف إلى جنة أو نار ومن ذلك:
* من ترك الصلاة أو تهاون بها أو تكاسل عنها:
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الصلاة: «من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأبُي بن خلف» [رواه أحمد وابن حبان وإسناده صحيح].
مختارات