" السيـف "
" السيـف "
رمقتُ سقف الغرفة وأنا أنظر بعينين زائغتين، فقد انقطعتُ عن الدنيا وغبت عن الحياة منذ أن تركت المدرسة، لا أرى زميلة من زميلاتي سوى مُدرِّستي "... " كل شهر أو شهرين تزورني، نعم بعد غدٍ موعد زيارتها.
أعد الدقائق واللحظات وأستعجل الليل والنهار، أحتاج إلى من يزورني، ويخفف همي ووحدتي ولكن يتربع سؤال على لساني: أين المحبة؟! وأين الوفاء؟ من كن يسمعن ضحكاتي في المدرسة اختفين !! من سعدن بقربي في الصف الدراسي سنوات ذهب ن!! وحيدةً أعيش: الأنين رفيقي، والألم سميري، والهم والغم أنيسي، تتجاذبني الأهواء شاردة ساهية حتى والدتي تعبت من الجلوس معي، منذ زمن لم أر حفلاً ولا دُعيت لمناسبة، ولو دعيت كيف أذهب؟! وأنا لا أتحرك بسهولة خاصة في مكان يحتاج إلى حركة ونشاط، يحتاج إلى فرح وسرور، وأنا لست كذلك، كلما فقدت الأمل وطوقني اليأس؛ تأتي كما يُرش الماء على هشيم النار.
ويأتي عذب حديثها: اصبري واحتسبي، أمر المؤمن كله له خير، عليك بذكر الله وقراءة القرآن، لا تضيعي دقيقة واحدة من وقتك في الهواجس والخوطر.
* زيارة مُدرستي قصيرة ولكن حديثها طويلٌ؛ طويل يصل إلى أعماق القلب، ويحيي الأمل في النفس، عطر الكلمات يبقى وهي تودعني وتُبقي هديةً كلما أتت.
مرت سنة كاملة وهى لم تتركني؛ تتعاهدني بالزيارة بين حين وآخر، أخبرتني أنها ستتزوج، فرحت بذلك، ولكن بدأت تنقطع زيارتها؛ تُباعدها الأيام رغم أني تحدثت عن حاجتي لرؤيتها ورأت دمعتي وأنا أُلح عليها بزيارتي.
مع انقطاع أسعد اللحظات معها عشت في صراع رهيب، الكلمات التي تأتي كالبلسم اختفت، حديث القلب انقطع، والابتسامة المشرقة غابت، انقطعت بنا الأيام وتباعدت الزيارات.
* في ليل طويل؛ تطاول من الألم واسودَّ من ظلمة الدنيا في عيني، تناولتُ سماعة الهاتف؛ سأتصل بابنة عمي.
كيف حالك؟ لم أرك منذ زمن؟ أين أنت؟ أجابت: أنا مشغولة بدراستي، ولكن أخبئ لك مفاجأة.. وأي مفاجأة !! قلت: ما هي؟ في زمن المرض والكآبة هل هناك مفاجآت؟! أحسست أن سكون حياتي سيتحرك وركود أيامي سيجري، هناك مفاجآت في حياتي.
ولكنها أعادتني كسيرة الفؤاد؛ غداً أُخبرك، لن أخبرك اليوم، انتهت المكالمة، نامت قريرة العين، أما أنا ربما غفوت مرةً أو مرتين، وعندما غالبتُ نفسي لا بد أن أنام حتى أكون مستعدة للمفاجأة، صرخ هاتف المرض بداخلي أنت نائمة منذ سنتين أو أكثر !!
* في صباح الغد قلت لها حين أقبلت: لم يبق لدي لهفةٌ وشوق لأسمع المفاجأة؛ لقد تبلدت أحاسيسي.
قالت: هوني عليك، الأمر يعني لك كل شيء.
مفاجأة لن تتكرر، فرصة عُمر، إنها فرصة تُنهي المرض وتنهضين من فراشك.
فتحت فمي مدهوشة وقلبي يوشك أن يقفز من صدري ورعشةٌ بين أضلعي.
* قالت: اسمعي، حدثتني زميلتي عن شخص صالح يعرف ماذا بك من الأمراض؟ وبعد أن يراك يعطيك أدويةً وأعشاباً تشفيك بإذن الله مما أنت فيه !! كثيرات ذهبن إليه، فلانة ذهبت له وقد طرقت أبواب المستشفيات ولم تُنجب، أُبشركِ؛ حامل، وهى الآن في الشهر الثالث، وفلانة تعرفين مشاكلها مع زوجها كان يكرهها ولا يطيقها بل هددها بالطلاق، ذهبت إليه، أتعرفين؟! الآن لا يستطيع أن يفارقها، قاطعتها.. إنه...قالت وصوتها يهز المكان: أنتِ مسكينة، ظَلِّي مريضة طول عمرك أتقبلين أن تعيشي هكذا؟ ألا تريدين العافية؟ ألا تبحثين عن الزوج وتكوين أسرة؟ ألا ترغبين في إنجاب طفل يملأ عليك حياتك؟ أحلامٌ تلاحقت أمامي، وسمعتُ صراخ طفلي وبسمة الحياة حولي، لم أفكر في مقاطعتها.
استمرت في حديث الحُلم؛ دغدغ مشاعري وأعمى بصري.
لو كتب الله لك العافية لعدتِ إلى حياتك، ولتزوجت وأنجبتِ.
* بقية إيمان في قلبي صرخت تقول بصوت ضعيف: إنه ساحر، كاهن.
قالت: هذا رجل صالح !! كثيرون ذهبوا له، وعافاهم الله، الله الشافي؛ وهو سببٌ من الأسباب يداوي بالأعشاب والقراءة.
لحظات الضعف توالت، خبت جذوة الإيمان في قلبي،وسَمِعَتْ صوتي وقد هزه الضعف وأنهكه المرض: متى نذهب؟! انتفضتْ واقفةً تلوِّح بعباءتها: الآن، سأتصل بالهاتف قبل أن نذهب.
ثوانٍ.. دقائق.. وإذا بي على مقعد بجوارها، والسيارة تنهب الأرض، قالت: لا تتكلمي، سأتولى كل شيء، ثم أتبعتها بضحكة قوية: إذا تزوجت غدا تنسين معروفي معك !!
* في ليل مظلم غاب قمره وبقلب علاه رانٌ لم يسطع إيمانه؛ طُرقٌ مظلمة وشوارع ضيقة.
توقفت السيارة.. التفتت يمنة ويسرة ثم سألت السائق: ألا يوجد أحد عند الباب؟ قال: لا.
قلت: اُطرق الباب بهدوء.
انتابني الخوف من تصرفاتها وكثرة التفاتها كأننا لصوص !! صرير الباب يُسمع في هدوء الليل، وفي رُعب شديد دلفنا مع الباب، المكان موحش لا أثر للإضاءة في مدخله؛ مظاهر الفقر والفوضى تطغى عليه.
أقبل علينا رجلٌ في منتصف الأربعين من عمره؛ جسمٌ هزيل، وعينان غائرتان، وأطراف مُرتعشة، تمنيت أن الأرض انشقت بي ولم آت إلى هنا، نظراته كالسهام تُصوب نحوي، وبدأت يده تُمسك بي، لا أستطيع الحركة، وخشيت أن أصرخ، عقد الخوف لساني، وجمدت أطرافي، رحم الله المرض؛ لم أعانِ في سنواتٍ مضت ما أعانيه الآن.
قالت له وأنا ممسكة بيدها: هذه ابنة عمي، ونريدك أن تهتم بها، ونعطيك ما تريد !! قال بصوت أجش مزق سكون الظلام: أنا لا تهمني المادة، المهم عافيتها، والشفاء من الله.
سعل بقوة شديدة ثم قرأ " وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ " وأردف بضحكة أخرجت أنياباً في فمه: بعد شهر لا تستطيعين اللحاق بها من سرعة الجري !! ما اسمها؟ ما شاء الله، قالت: فلانة، واسم والدتها؟ قالت: فلانة، وسيل من الأسئلة اندفع.
سكت برهة ووجه الحديث نحوي: سأخبرك بأمور إذا كانت صحيحة قولي نعم، وإذا كانت غير ذلك قولي لا، قال: كُنتِ بنتاً نشيطة وفتاة محبوبة؟ قلت ورأسي يخط على رقبتي: نعم.
قال: الكثيرات يغِرنَ منكِ ويحسدنكِ؟ قلت: نعم.
قال: ذهبتِ إلى أطباء كثيرين ولكن دون فائدة؟ قلت: نعم.
قال: كنتِ متفوقة في دراستك؟ قلت: نعم.
أخذ يسألني أسئلة إجابتها نعم.
ثم قال: انتظري.
تحرك كأنه جبل انزاح عن قلبي.
التفتت إليَّ ابنة عمي بصوت هامس وحماس واضح: أرأيت؟ كل أسئلته صحيحة.. هذا خبير يعرف كل شيء !!
بعد دقائق من حديث متقطع، أقبل علينا.. وحدثنا وكأنه يأمرنا بالخروج: بعد يومين تأتين وحدك، وأشار بيد مرتعشة إلى ابنة عمي.
* خرجنا: قلت: الحمد لله الذي أخرجني من الظلمات إلى النور، بجواري ابنة عمي فرحة مسرورة، ولكني ازددت ألماً على ألمي وحزناً على حزني، شعور بداخلي يرتفع ويصرخ في أذني: تقدمتِ خطوة إلى النار، لم أنم تلك الليلة؛ خواطر تعاقبت وألم يغرس سيفه في قلبي.
أين ذهبتِ في تلك الأزقة والطرق المظلمة؟ كلما تذكرت مظهره انتابني الخوف، وكلما تحسست موضع يده اقشعر جلدي، عاتبت نفسي حتى بكيت بحرقة، ولكن لحظاتٌ تمر ولا يزال الأمل بالعافية يدغدغ مشاعري وخطرات في عقلي، ألم تسمعيه وهو يقرأ القرآن وهو يردد: العافية من الله.
رجل صالح رجل ساحر
لا بل صالح.. بل ساحر !! اختلطت الأمور، وأظلمت السماء، ورداء الخوف يُظلني.
* بعد يومين حسب تعليماته شربتُ، وأكلتُ، وتبخرتُ، ولم أر حلماً جميلاً كما قال لي بل رأيت أحلاماً مزعجة حيات، عقارب، أفاعي، كوابيس، ونوم متقطع !!
وفي اليوم الثاني حسب ما قال لي: " ستشعرين بكذا وكذا في الليلة الثانية " لم أشعر بشيء مطلقاً، ولم تتحرك شعرة في رأسي !!
بعد شهر من الأدوية والعلاج بدأ الحماس يفتر والفرح يخبو.
* في مساء يوم جميل دَلَفَتْ مع الباب؛ إنها مُدرستي اختلفت كثيراً؛ بهاء السعادة يُطل من عينيها؛ وفرح عريض على شفتيها، زادت أناقتها مع بساطة واضحة، بشوشة كما هى لم تتغير، قبلتني بين عيني ثم سألتني عن كل فرد في المنزل وعن والدتي ووالدي.
ما أحسن خلقها، وما أصدق ابتسامتها، في حديث لتهوِّن عليَّ ما أنا فيه روت لي قصة شاب مقعد مشلول طريح الفراش؛ ثم تابعت: احمدي الله؛ أنت تتكلمين، وتشعرين، غيرك لا يشعر بما حوله.
هوَّنت الأمر عليَّ، واستمر الحديث، وصدري يغلي بما فيه، أريد أن أتحدث عن كل شيء، كلما لمستُ صدق محبتها ولطفها شعرت أنني في حاجة إلى مصارحتها؛ سأخبرها بالأمر.
تحرك لساني ببطء، استعدتُ الذاكرة، وأحداثٌ لا تُنسى، عاد الرعب لقلبي والرعشة بأطرافي، بدأت في الحديث، إنصات عجيب وحضورٌ متوقد، صوتي يروح ويغدو في المكان، وعندما توقفتُ عند آخر كلمة: " لم أجد شفاءً " ألقيت إليها بمهمة الكلام.
قالت لي مخاطبة: إنا لله وإنا إليه راجعون، كيف وافقت على الذهاب بل كيف تطرقين هذا الباب؟ تبحثين عن العافية بمعصية الله؟! أما سمعت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: " من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد ".
سكتت برهة، قلت بهدوء: أعلم أن ما تقولين صحيح، ولكن ضَعُفَ إيماني وفي لحظات سقط كل شيء، وبكيتُ بحرقة بعد أن رجعت.
* لإزالة ما بقي من هواجس وخواطر، عدتُ لأقول وأدافع عن نفسي؛ فأنا صريعة الأمواج، لا مقر ولا مفر.
قلت: لقد قرأ آيات من القرآن، وسمعته يقول: إن الله هو الشافي المعافي ليس أنا.. لا تهمه المادة... و... قلت لي: هل يدل مظهره على أنه من أهل الصلاح والتقوى؟ قلت: لا.
قالت: الأوراق التي قال تبخري بها، هل قرأتِها؟
قالت: لا تقرأ؛ طلاسم، رموز، أرقام.
سألت وأسى ألمحه على وجهها: ألم يقل ما اسم أُمكِ؟ ما فائدة الاسم في العلاج؟
خيَّم علينا سكون يسبق العاصفة.
قلت لها مدافعةً وأنا أعلم خطئي: أخبرني بأشياء صحيحة في واقع حياتي.
قالت وقد هزت يدها: كل ما قاله ينطبق على أغلب الناس، أعيدي الأسئلة عليَّ أنا لِتَرَيْ ثم هو يتعاون مع الشياطين في معرفة غير ذلك من المعلومات، لا تنخدعي بهذا الأسلوب الماكر.
تحول الحديث إلى نقاش طويل.
سألتني: ألم يقل لك اذبحي ديكاً أو كبشاً؟
قلت لها: لم يُلزمني بذلك، قال: إن فعلتِ فهذا أفضل؛ يطرد الشياطين ويحميك من الشرور.
قالت: والله ضاع التوحيد، كنت تقفين على بعد خطوات من النار.
عليك بالرقية بالقرآن؛ سواءً قرأت لنفسك - وهذا أكثر إخلاصاً - أو قرأ ونفث عليك شخص معروف بالصلاح والتُقى، تسمعين قراءته للقرآن، لا طلاسم ولا همهمة ولا رموز.
وتعتقدين أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله عز وجل.
قالت بصوت فيه مرارة الألم: لو مِتِّ على التوحيد وأنت مريضة خيرٌ لك من أن تحيي مشركة، اسألي الله العافية، وعليك بالرقية الشرعية، تأملي حاله، لو كان يقدر على خير لقدمه لنفسه.. ألم تَرَيْ بؤسه وفقره؟ قلت: بلى.
قالت: من أحب إليه: أنت أم نفسه؟ لماذا لم ينفعها؟ هذه أبواب تؤدي إلى النار، في سبيل دنيا عمرها قصير تهوين في نار جهنم: " إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ".
* صرختُ منتفضة والإيمان يعمر قلبي ودمعة تسقط من عيني، وسؤالٌ على لساني: والحل؟
قالت: عليك بالتوبة فبابها مفتوح، واحرصي على ابنة عمك، لا تذهب مرة أخرى.
ثم حتى تبرأ ذمتك يجب أن تُخبري عنه؛ لكي يُمنع شره، ويأخذ جزاءه، ولخطورة عمله، فالساحر لا يُستتاب مثل تارك الصلاة مثلاً بل يُمرُّ السيف على رقبته ( القصة من الزمن القادم؛ المجموعة الثالثة).
* في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما يصيب المؤمن من وصبٍِ ولا نصبٍِ ولا همٍّ ولا حزنٍِ ولا غمٍّ ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه ".
مختارات