فقه الفقر (٣)
ففقر العباد إلى ربهم نوعان:
فقر إلى ربوبيته: وهو فقر المخلوقات بأسرها إلى ربها، في إيجادها ومصالحها.
وفقر إلى ألوهيته: وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين.
وهذا هو الفقر النافع، فإن فقر العبد إلى أن يعبد الله وحده لا شريك له ليس له نظير فيقاس به.
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بإلهه الحق الذي لا إله إلا هو، فلا يطمئن إلا بذكره، ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه، ومهما حصل له من اللذات والسرور بغيره فلا بدَّ أن يفارقه.
وأما إلهه الحق فلا بدَّ له منه في كل وقت وفي كل حال وأينما كان.
فنفس الإيمان به وتوحيده، ومحبته وعبادته، وذكره وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه.
فليست عبادته وشكره وذكره تكليف ومشقة لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لمجرد التعويض بالثواب المنفصل كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان.
بل عبادة الله وشكره ومعرفته وتوحيده قرة عين الإنسان، وأفضل لذة للروح والقلب، وأطيب نعيم ناله من أكرمه الله بهذا الشأن.
وفقر العباد إلى الله أمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم، وغنى الرب سبحانه لذاته لا لعلة أوجبت غناه.
فالفقير بذاته محتاج إلى الغني بذاته سبحانه.
وفقر العالم كله إلى الله عزَّ وجلَّ أمر ذاتي لا يعلل، فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته.
فالفقر المطلق ثابت للعباد من كل وجه، والغنى المطلق ثابت للرب من كل وجه.
والفقر اسم للبراءة من رؤية الملكة، فالفقير هو الذي يجرد رؤية الملك لمالكه الحق، فيرى نفسه مملوكة لله، لا يرى نفسه مالكاً بوجه من الوجوه، ويرى أعماله مستحقة عليه بمقتضى كونه عبداً مملوكاً مستعملاً فيما أمره به سيده.
فنفسه مملوكة، وأعماله مستحقة، فليس مالكاً لنفسه ولا لشيء من أعماله، ويرى ما بيده من الأموال والأسباب كالوديعة، فهي أموال سيده ونعمه، وهو متصرف فيها بأمر سيده.
فالله هو المالك الحق لكل شيء، وما بيد خلقه هو من أمواله وأملاكه وخزائنه، أفاضها عليهم ليمتحنهم في البذل والإحسان، وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله، فيبذل أحدهم الشيء رغبة في ثواب الله، ورهبة من عقابه، وتقرباً إليه وطلباً لمرضاته؟.
أم يكون البذل والإمساك منهم صادراً عن مراد النفس، وغلبة الهوى، وموجب الطبع؟.
فيعطي لهواه، ويمنع لهواه، فيكون متصرفاً تصرف المالك لا المملوك؛ فيكون مصدر تصرفه الهوى ومراد النفس.
وغايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أو رفعة أو منزلة أو مدح، أو الرهبة من فوت شيء من هذه الأشياء.
فهذا يرى نفسه مالكاً خرج عن حد العبودية ونسي فقره.
ولو عرف نفسه حقاً لعلم أنه مملوك ممتحن، في صورة ملك متصرف كما قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)} [يونس: ١٤].
ووجود المال بيد الفقير لا يقدح في فقره، إنما يقدح في فقره رؤيته لملكيته، وإنما هو لسيده وهو كالخازن لسيده، الذي ينفذ أوامره في ماله، وله خزائن السموات والأرض.
وإذا أصاب المال الذي في يده نائبة أو جائحة رأى أن المالك الحق هو الذي أصاب مال نفسه، فما للعبد والجزع والهلع؟.
وإنما تصرف مالك المال في ملكه الذي هو وديعة في يد مملوكه، فله الحكم في ماله وحده:
إن شاء أبقاه.
وإن شاء أفناه.
وإن شاء زاده.
وإن شاء نقصه، فلا يتهم مولاه في تصرفه في ملكه.
بل يرى تدبيره هو موجب الحكمة.
والفقر على ثلاث درجات:
الأولى: فقر الزهاد، وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أو طلباً، فهو لا يضبط يده مع وجود المال شحاً، ولا يطلبها مع فقدها سؤالاً وحرصاً، وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً؛ لأن من اهتم بأمر وكان له في قلبه موقع اشتغل اللسان بما فاض على القلب من أمره مدحاً أو ذماً.
فهو إن حصلت له الدنيا مدحها.
وإن فاتته ذمها.
ومدحها أو ذمها علامة موضعها من القلب، والشيء إذا صغر أعرض القلب عنه مدحاً أو ذماً.
والقلوب تولد كما تولد الأبدان.
ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أباً للمؤمنين، وأزواجه أمهاتهم، فإن قلوبهم وأرواحهم ولدت به ولادة أخرى غير ولادة الأمهات، فإنه أخرج أرواحهم وقلوبهم من ظلمات الجهل والضلال والغي، إلى نور العلم والإيمان، وفضاء المعرفة والتوحيد.
والقلوب في هذه الولادة ثلاثة:
قلب لم يولد ولم يأن له، بل هو جنين في بطن الشهوات والغي، والجهل والضلال.
وقلب قد ولد، وخرج إلى فضاء المعرفة والتوحيد، ونور العلم والإيمان، فقرت بالله عينه، وقرت عيون به وقلوب، وذكرت رؤيته بالله، فاطمأن بالله وسكن إليه.
وقلب ثالث في البرزخ ينتظر الولادة صباحاً ومساءً.
تأبى عليه غلبات المعرفة والحب والشوق إلا تقرباً إلى ربه، وتأبى عليه غلبات الطبع إلا جذبه وإيقافه وتعويقه، فهو بين هذا مرة، وهذا مرة.
الدرجة الثانية: الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل، وذلك يورث الخلاص من رؤية الأعمال، ويقطع شهود الأحوال.
فبفضل الله ورحمته وجدت منه الأقوال الشريفة، والأعمال الصالحة.
وبفضله ورحمته وصل إلى رضاه ورحمته وقربه وكرامته.
والقلب إناء واحد، والأشربة متعددة، فأي شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره.
وإنما يمتلئ الإناء بأعلى أنواع الأشربة إذا صادفه خالياً، ففقر صاحب هذه الدرجة تفريغه إناءه من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة، وكيف يوضع شراب التسنيم الذي هو أعلى أشربة المحبين في إناء ملآن بخمر الدنيا والهوى.
مختارات